مثل أي فكرةٍ يحملها نظامٌ يتهالك حتى يسقط فتسقط الفكرة معه، هكذا بدت القومية العربية عند شريحة واسعة من العراقيين الناقمين على نظام صدام حسين. الاستبداد والحروب والإبادات الجماعية وقمع الحريات وحتى الحصار الأمريكي الذي جوّع العراقيين في تسعينيات القرن الماضي ارتبط بالنظام ثم بالقومية العربية في ذهنية العراقيين.
النقمة على صدام حسين واستبداده تحولت إلى نقمة على فكرة القومية العربية
لم ترتبط القومية وحدها بذلك النظام، فهذه قضية فلسطين التي لا تحمل بُعدًا قوميًا فحسب، بل هي قضية عادلة لشعب تعرض لأكبر عملية سطو مسلح في القرن العشرين، هي الأخرى، أصبحت لا تُلهم شرائح واسعة من المجتمع العراقي، لارتباطها بالنظام السابق أولًا، وللأكاذيب التي تم تداولها حول الانتحاريين الفلسطينيين في العراق بعد 2003 ثانيًا، تلك الأكاذيب التي صدقها الناس كإحصائيات رسمية تضع الفلسطينيين في صدارة من فجروا أجسادهم بين المدنيين في العراق، والتي كان أكبر المروجين لها هم من يعلنون مناصرة فلسطين وعداء الاحتلال الإسرائيلي.. ويا للمفارقة!.
نعم، بدأ الانتماء للهوية العربية بالاضمحلال حال دخول الاحتلال الأمريكي وسقوط حزب البعث العربي الحاكم، ثم اقتران العمليات الإرهابية بدول وجهات عربية في السر والعلن، عزّز هذا الاضمحلال نظام المحاصصة الطائفية الذي قسم العراقيين العرب إلى طوائف وباقي المكونات إلى قوميات، وبات العربي العراقي يرى نفسه شيعيًا أو سنيًا بحسب من يمثله في الحكم. لكن القومية ليست آيديولوجية تموت بموت النظام، فاللغة لا تتيح للمجتمعات – وليس الأفراد – خيار التخلي عنها، كما أن الثقافة والتاريخ والجغرافية والدين أيضًا لا يتيحون لمجتمع ما خيار اقتطاع نفسه وولادتها في حالة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: العراق في المؤشر العربي.. إرث الاستبداد الثقيل
لست عربي الأًصل. أنها معلومة لا تهم الآخرين، لكنها قد تصب في مصلحة أن النقاشَ عقلانيٌ غير مدفوعٍ بدوافع عاطفية انتمائية، رغم أن الأخيرة ليست عيبًا، بل هي أساس البنيان القومي: الشعور بالانتماء لجماعة من الناس. مع ذلك، دعنا نُجرب النقاش العقلاني بالصيغة البراغماتية التي يُحبذها الحداثويون.
تُسبب الصراعات القُطرية بين العرب خسائرٍ فادحةٍ على صعيد الدولة الواحدة، كما على صعيد الأمة ثقافة واقتصادًا وسياسة
فكرة الدولة التي نعتقد بها حلًا للمشاكل التي نُعاني منها ليست من صنيعتنا. هكذا تشكل العالم. وبصيغة الدولة القومية الموحدة نشأت الدول التي ننظر لها بإعجاب يصل إلى حد الهوس والتقليد. وليس صحيحًا أنها أصبحت دولٌ كونية لا تعترف بقومية شعوبها، وسنناقش ذلك لاحقًا. لكن الواقع أننا أفرادٌ يعيشون في دولٍ بصيغتها المعروفة ووفق النظام العالمي المعروف، فلا خيار لنا سوى الدولة. أمنُنا وغذاؤنا وحريتُنا وكرامتُنا كلها مرتبطة بالدولة. كل ما مَسّنَا ويَمِسُنا من تدهور في الأوضاع الأمنية، وما يتعلّق بحياتنا اليومية مثل الكهرباء والصحة وفرص العمل، كل ذلك مرتبط بالنظام السياسي الذي يحكم تلك المساحة من الأرض، والذي يجب أن يكون ممثلًا شرعيًا لمن يعيش عليها.
إذًا، قوة الدولة هي الخيار الوحيد لتحقيق الأمنيات. هكذا تشكل العالم. هذا هو خيارُنا الوحيد. لكن الدول العربية، بتقسيماتها القطرية، أثبتت مرارًا عدم قدرتها على مجابهة التحديات كاملة بمفردها. ليست التجارب بقليلة في وطننا العربي منذ سايكس بيكو حتى اليوم. خلافات البعث في القطرين العراقي والسوري، وحرب الخليج، والمشكلات المصرية والسودانية والأردنية الفلسطينية وليس انتهاءً بالأزمة الخليجية الراهنة، كلها شواهد على ما تُسببه الصراعات القُطرية من خسائرٍ فادحةٍ على صعيد الدولة الواحدة، كما على صعيد الأمة ثقافة واقتصادًا وسياسة.
ولأن اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافية يجمعون سكان هذه المنطقة، لا زلنا نعتقد بضرورة وجود ـ على الأقل ـ اتحاد سياسي واقتصادي وأمني بين الدول العربية ، لتُكمل بعضها البعض. إن الأمر بهذه البساطة، وليس من المنطق أن يتحمل جيلنا إخفاقات بعض القوميين العرب واستبدادهم وفشلهم في بناء دولهم وتحرير فلسطين وتوحيد هذه المنطقة.
اقرأ/ي أيضًا: هل القومية العربية مشروع رومانسي؟
لم يكن أبناء ذلك الجيل بحاجة إلى سوق تبريرات كما أفعل الآن، لكن حالة النفور من الهوية العربية باتت تتطلب منطقًا عقلانيًا ونموذجًا ناجحًا على جميع الصعد، في بلادٍ ترسمها الفوضى ويلونها الخراب، كما أن حالة جلد الذات ونكران الهوية بحاجة إلى جرعات نقدية ـ وروحية ـ تُعالج العطوب الموجودة في نفس الإنسان العراقي جراء الكوارث التي حلت به. بحاجة إلى عمل مضنٍ على مسألة لا يكترث لها بعضنا: إعادة الثقة بالنفس.
لا أعوّل على أي نظامٍ عربي بالمطلق. التعويل على الشعوب في أن تبقى مجتمعةً على قضاياها المركزية، فإن فقدتها فقدت المسألة الأهم وتفرقت شِيَعًا. هذه هي الوظيفة الأساس للمهتمين بالشأن العام برأيي. ولكل جيل الحق أن يحلمَ ويضع خارطةَ الطريقِ ذاتها أمامه، ويتعلم من فشل سابقيه.
حالة النفور من الهوية العربية ونكران الذات بحاجة إلى جرعات نقدية تعالجها إذ أن تخلي العربي عن كونه عربيًا لا يصنع منه فرنسيًا
هناك من يعتقد أن الناس يعيشون دون رابطة في الغرب، متخذًا مما وصلوه من نتائج مقدمات لمجتمعه!.. لا بد من قناعة نهائية تفيد إلى أن تخلي العربي عن كونه عربيًا لا يصنع منه فرنسيًا.
اقرأ/ي أيضًا:
"الدولة ضد الأمة".. خراب العالم العربي
انشغال عزمي بشارة بـ"المسألة العربية".. ما بعد قشور الراهن العربي