لم يبدأ التصعيد ضد الوجود الأمريكي في العراق مع حادثة المطار إلا أنها كانت نقطة التحول في نوع الصراع ولقد فصّلنا تعاقب المراحل مع مفترق اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس الذي لا زلنا نعيش تداعياته حتى اللحظة.
تَعتبر القوى المناهضة للوجود الأمريكي تصريحات ترامب مجرد دعاية انتخابية وتشكك برغبة الانسحاب العسكري من العراق
الآن، ثمة حراك في البيت الأبيض لسحب المزيد من القوات المتواجدة في العراق وآخره تصريحات الإدارة الأمريكية حول تقليص القوات إلى ثلاثة آلاف من أصل خمسة آلاف ونيف، وهو انسحاب جزئي يبدو حلًا وسطًا بين (مخاوف) ترك المنطقة على وجه السرعة، وبين مطلب البرلمان العراقي والأحزاب المقربة لإيران بإخراج الأمريكان ورغبة ترامب به.
اقرأ/ي أيضًا: سفن إيران ورياح القوات الأمريكية: معادلة مهددة
مع التصريحات العراقية الرسمية في بغداد وواشنطن، وتصريحات الحكومة الأمريكية، أبت الفصائل المسلحة أن تُوقف عمليات استهداف المعسكرات وسفارة الولايات المتحدة ومطار بغداد العسكري بل واستهداف معدات التحالف الدولي بجنسياته المختلفة وأرتال الدعم اللوجستي التي عادةً ما يقودها عراقيون مدنيون و/أو عسكريون.
في الظل لهذه العمليات العسكرية تبرز تصريحات سياسية داعمة موازية للصواريخ حول "كذب" الأمريكيين وعدم رغبتهم بالانسحاب وكأنها تُبرر استمرار الاستهداف كنوع من الضغط (الخشن ربما) لإجبار القوات الأجنبية على الانسحاب الحقيقي، كما يبدو للوهلة الأولى.
بالتأكيد، سيكون المتابع لأخبار هذا الشأن قد سمع عشرات التصريحات التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رفضه لزج بلاده بحروب في بلدان العالم ومنطقة الشرق الأوسط، وسبق أن وصف التدخل العسكري في هذه المنطقة بأكبر خطأ تاريخي وقعت فيه الولايات المتحدة، فضلًا عن الكثير من التصريحات التي تخص العراق تحديدًا ورغبته بالخلاص من هذا البلد القلِق، و"الحروب التي لا تنتهي في أراضٍ بعيدة" كما عبّر غير مرة.
مع ذلك، تَعتبر القوى المناهضة للوجود الأمريكي تصريحات ترامب مجرد دعاية انتخابية وتشكك برغبة الانسحاب العسكري من العراق. وهذه التشكيكات والتحليلات لا تأخذ معنىً دعائيًا لمطلقيها فحسب، بل تبدو كقناعة تُترجم من خلال الضربات المستمرة ضد القوات الأجنبية.
إن الانتخابات بلا شك محور الكثير من خطوات الرؤساء الأمريكيين ليس في الولايات المتحدة فحسب؛ بل سائر الدول الديمقراطية التي تحاول فيها النخب السياسية إرضاء الناس لكسب أصواتهم. ولكن تصريحات ترامب حول الانسحاب من المنطقة لا تحمل جديدًا، وربما تكون هي القضية الوحيدة غير المدرجة في خطاباته الشعبوية، من سلسلة القضايا التي لا يؤمن بها ويستخدمها كأداة لتملق الناخبين. لقد فعل ما قاله فعلًا في سوريا رغم انتقاده لتخليه عن حلفاء أمريكا.
أساسُ صراع ترامب هو الجناح الديمقراطي واليساري الذي يُتهم بارتكابه خطأ الانسحاب من العراق وإتاحة الفرصة لتنظيم داعش باحتلال مناطق شاسعة من الهلال الخصيب. وإن كانت القضية انتخابية فحسب فالمفترض على زعيم الشعبويين في العالم ـ ترامب ـ أن يستخدم انسحاب أوباما بشكل مقلوب ويبرر الحرب التي خاضها الجمهوريون. للتذكير: يعلم ترامب إن ذلك لا يرضي الأمريكيين.
من زاوية نظر أخرى، قد يكون إعلان الانسحاب على وقع الضربات العسكرية التي تحمل بصمات إيرانية إعلانُ انهزامٍ في العراق، وهذا مُضرٌ انتخابيًا بطبيعة الحال. ومن زاوية ثالثة، فرئيس البيت الأبيض مُلزم بالإيفاء بوعوده حول التواجد العسكري في الشرق الأوسط كما أنه صرّح برفقة رئيس الحكومة العراقية عن رغبته بالخروج السريع (3 سنوات) خلال زيارة الأخير لواشنطن. ليس من مصلحة ترامب داخليًا أن يتخلّف عن تنفيذ الوعود المتعلقة بهذا الملف. هناك رأي عام سيسأله عن مصير القوات خاصةً إذا ما استجد حدثٌ كبير. سيقولون له حتمًا: أين أبناؤنا؟
تبحث هذه الحجج في أصل التصريحات الصادرة من سياسيين وقادة عسكريين والتي ربما لها خلفيات أكبر خاصةً مع تأكيد نائب رئيس لجنة الشؤون الداخلية والمجالس البرلمانية في إيران ـ لاحظ الشؤون الداخلية ـ على "دعائية" الانسحاب الأمريكي. وبغض النظر عن حجة الإيفاء بالوعود، يُطرح السؤال التالي: ماذا يضر هؤلاء إذا كان الانسحاب الأمريكي يعود بمكاسب انتخابية، بالذات وأن الفترة المحددة مؤخرًا تنتهي في أيلول، وبالإمكان الانتظار لحينها ثم إطلاق التحليلات الاستراتيجية!
يقودنا هذا السؤال إلى أسئلة حول حقيقة ما يريده الجناح المناهض للأمريكين؛ هل التأكيد على إخراج القوات العسكرية فحسب كمطلب استراتيجي بذاته؟ أم البحث عن انتصار لا يتحقق بالطريقة السارية؟ أم الضغط باتجاه ملف العقوبات على إيران؟ أم إثبات وجود سياسي داخلي؟ نقول ذلك كون العبوات الناسفة تنفجر والصواريخ تتطاير على مواقع الأمريكيين أثناء حديث واشنطن عن الانسحاب من العراق، وهو ما لم يحدث مع اتفاقية الإطار الموقعة في 2008.
ربما كل الخيارات المطروحة أعلاه صحيحة مجتمعةً، وهناك أدلة تدعم بعض هذه الخيارات. نرى في عملية النجف رسالة للنجف، وهي مرتبطة بإثبات الوجود الداخلي، وهناك فرضية أخرى لمواصلة الاستهداف تتعلق بهدف التواجد الأمريكي في العراق المتمثل بمراقبة إيران كما أعلنه ترامب جهارًا خلال زيارته لقاعدة عين الأسد: "كل ما أريده هو القدرة على المراقبة". أطلق هذا التصريح نهاية عام 2018 مع تأكيد بعدم وجود خطة لسحب القوات الأمريكية. وربما أن إعلانه الانسحاب لاحقًا أسقط جزءًا من التصريح القديم وتَرك شطرًا تهديديًا آخر عند الطرف الثاني.
العبوات الناسفة تنفجر والصواريخ تتطاير على مواقع الأمريكيين أثناء حديث واشنطن عن الانسحاب من العراق، وهو ما لم يحدث مع اتفاقية الإطار الموقعة في 2008
هناك تبدّل في مواقف الكثير من القوى السياسية والعسكرية العراقية وحتى الإيرانية حول القصف، وهناك آراء "مؤامراتية" في تحليل أصل الاستهداف؛ لكن الواضح أن الاستهداف مستمرٌ، وأنه متبنى من جهات تكشف عن نفسها قليلًا عبر التطبيقات الاجتماعية، وأن سببه لا يتخطى الخيارات المطروحة هنا، مع ترجيحنا لتعدد الأهداف وبنسب متباينة. لكن السؤال الذي يُطرح: ماذا ستفعل هذه الجهات إذا انسحب الأمريكيون فعلًا؟
اقرأ/ي أيضًا:
انسحاب عسكري وتفاهم اقتصادي.. موقف "المعارضين" من زيارة الكاظمي وخيارات الرد