02-أبريل-2023
خطباء

يعتقد مراقبون أن بعض أشكال خطاب المنبر غير صالحة للتداول (Getty)

تختص مؤسسة التدين الشيعي في العراق بميزة تكاد تكون متفردة يُطلق عليها "المنبر الحسيني"، وهي وسيلة إعلامية طالما استثمرت في ترويج أفكار وآراء متعلقة بالمذهب وترسيخ شكل من العقائد لدى طيف واسع من المجتمع.

ساهمت "ظاهرة خطباء المنبر" في ترسيخ "الوعي المذهبي" و"الإسلام الشعبي" في ظل غياب الرادع القانوني وفق مختصين

ومع اختفاء القيود الصارمة التي فرضها النظام السابق، انتشر خطباء المنبر بشكل غير مسبوق بعد عام 2003، وتوسع تأثيرهم لاحقًا عبر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، دون "َضوابط كافية" لمنع الخطاب الطائفي، سواءً على مستوى المؤسسة الدينية أو القانونية، الأمر الذي يثير انتقادات واسعة وكثير من التساؤلات.

3

 

"الدين.. هوية اجتماعية"

لعلم الاجتماع رأي وتحليل، حيث يشترط الباحث في الشأن الاجتماعي محمد محل، معرفة رؤية العلم للدين لفهم الأمر.

ويقول محل في حديث لـ "الترا عراق"، إنّ "كتابات الاجتماعيين تعبر عن هذه الرؤية، باعتبار الدين جزءًا من البناء الاجتماعي (مكون أساسي في أي المجتمع)، يدخل ضمن أدوات الضبط الاجتماعي الرسمي وغير الرسمي (سلطة رادعة نفسية واجتماعية)".

ويضيف محل، أنّ "علماء الاجتماع عمومًا يصنفون الدين إلى قسمين، الأول رسمي تعبر عنه الكنيسة، الأزهر والحوزة، والآخر شعبي (دين ممزوج بالعرف والثقافة)"، مبينًا أنّ "التدين الرسمي ينتشر غالبًا في المدن، بينما ينتشر التدين الشعبي في الأرياف".

محل يرى أيضًا أنّ من الضروري "معرفة مكانة الدين في المجتمع العراقي لفهم ظاهرة الخطباء، حيث يشكل الدين هوية ورؤية إلى الحياة والعالم (نظرية معرفية)، وعلى هذا الأساس انعكس الأمر على بنية المجتمع العراقي المكون من إثنيات وأديان وطوائف، وفرض هذا التشكيل نفسه على المجال السياسي منذ تكوين العراق الحديث".

وعن دور بعض الخطباء في "تنشيط حمّى الطائفية وتكريس الشعبوية" بين عموم المواطنين، يتفق الباحث في الشأن الاجتماعي مع أنّ "ظاهرة انتشار الخطباء ساهمت في ترسيخ العقائد الطائفية والإسلام الشعبي".

تواجه السلطة الدينية الرسمية "معضلة" تتمثل بتأويلات نصوص تفضي إلى التمييز ضد الآخر 

ويقول محل، إنّ الأمر يعود إلى أنّ "الدين يشكل هوية اجتماعية وليس مجرد عبادة"، مبينًا أنّ "المجال السياسي قام أساسًا على تمثيل هذه الهويات وليس صهرها في تكوين أمة".

3

غياب الرادع القانوني بهذا الصدد، يعود وفق محل، إلى أنّ "العراق يعيش في حالة شبه استثنائية من ازدواجية القانون"، موضحًا أنّ "هناك نصوص في الدستور تجرّم العنصرية والتمييز في مقابل سلوكيات خارج القانون تمارسها النخبة نفسها، وهي قائمة على القانون، مثل امتلاك سلاح خارج سلطة الدولة".

ويبيّن محل، أنّ "هناك تأويلات للنصوص الدينية تفضي إلى التمييز ضد الآخر، وهذا نتاج فرعي لإشكالية تكوين أمة تحترم عقدها الاجتماعي والقانوني"، مشيرًا إلى أنّ "السلطة الدينية الرسمية تصرح علنًا أنّها ضد التمييز في خطب الجمعة، لكنها في نصوصها التراثية المكتوبة (تجاه الآخر) محافظة، ولم تتبرأ منها، وهي غير قادرة على مواجهة الجماهير جذريًا، لأن هذه الجماهير مصدر تمويل (الخمس) وعنصر قوة مادي".

 

"جهلة.. لهم أجندات"

دور المؤسسة الدينية "لم يكن مؤثرًا" في الحد من انتشار بعض الخطباء "الطائفيين والجهلة"، كما يرى مختصون.

ويقول الأستاذ الجامعي علي المرهج في حديث لـ "الترا عراق"، إنّ انتشار الخطباء "لم يسهم في زيادة الوعي الديني، بل على العكس تمامًا حيث أدى إلى نكوص المجتمع" مشيرًا إلى أنّ "الكثير من أفراد المجتمع يعتمدون على الخطباء، في استقاء معلوماتهم الدينية، لا علماء الدين المعروفين، الأمر الذي ساعد على انتشار الدين الشعبوي الطقوسي، وأدى إلى غياب الدين التجديدي الذي يجمع بين العقل والنقل والحكمة والشريعة، وصار دينًا يحركه الوجدان والعاطفة لا التأمل والاعتبار".

ويضيف المرهج، أنّ "مهمة الخطباء في الأغلب الأعم هو اللعب على عواطف الجمهور واستغلالها لتوظيفها لصالح مآربهم ومنافعهم الشخصية أو المذهبية، ليظلوا في صدارة المشهد اليومي السياسي والديني والاجتماعي"، مشددًا أنّ "دور خطباء الجوامع والحسينيات لم يكن بريئًا لا في زمن النظام السابق ولا اليوم، وهو أحد أسباب الفرقة الدينية والصراع الاجتماعي".

يرى مختصون أنّ انتشار خطباء المنبر ساهم في رواج "الدين الشعبوي الطقوسي" و غياب "الدين التجديدي"

المرهج يشير أيضًا إلى ارتباط الكثير من الخطباء بـ "جهات داخلية وخارجية سياسية ودينية عقائدية ينفذون أجندتها"، لافتًا إلى أنّ "المؤسسة الدينية، الشيعية والسنية على حد سواء، لم تلعب دورًا مؤثرًا في الحد من انتشار ظاهرة الخطباء الطائفيين والجهلة".

3

 

"عقدة اضطهاد وفشل مؤسسي"

من جهته يقول باحث قانوني لـ "الترا عراق"، إنّ "ظاهرة الخطباء الدينيين بشكل عام وخطباء المنبر الحسيني على وجه الخصوص، اتسعت بشكل كبير من حيث الكم بعد التغيير، بسبب رفع القيود على طقوس عاشوراء وبقية المراسيم الشيعية الآخرى من قبل جهاز الدولة والحزب في النظام السابق من جهة، واستجابة لمطالب الناس بنشر ثقافتهم المكبوتة من جهة أخرى، دون أن يصاحب هذا الانتشار ارتفاع نوعي في آليات الخطاب ومراجعة تفاصيله وتحسين مفرداته".

ويضيف مشترطًا عدم الكشف عن هويته، أنّ "الكثير من الوعاظ فشلوا في تقليد أحمد الوائلي رجل الدين والخطيب المعروف، والذي مثل ظاهرة منفردة استثنائية، لما يملك من ثقافة عامة متنوعة أدبية وتاريخية ودينية، بالإضافة إلى تماسك أفكاره وانسيابية حديثه المتسلسل، واستطاع من خلال ذلك إظهار جوانب من أعمدة الهوية الشيعية المضطهدة، عبر خطاب عقلاني اعتدالي وسطي". 

يصف الباحث ذلك بـ "التردي"، ويعزوه إلى "فقر الخطباء الثقافي، وسطحية معلوماتهم ومحدودية مواهبهم في التأثير"، وكذلك انتشار "الظاهرة الشيرازية الطقوسية الشعائرية المتطرفة".

يقول الباحث أيضًا إنّ "خطباء المنابر توافقوا مع السلطة الشيعية والجمهور الشيعي عمومًا، في بدايات التغيير، بحكم الحرب الأهلية الطائفية المحدودة، ثم افترقوا عن السلطة السياسية، ولعب بعضهم دور المعارض لاحقًا، مستحضرًا الإرث الشيعي المعروف بمعارضته للسلطة، وتحت تأثير الإعلام الشعبوي، وغضب الجمهور من طبقة الحكم".

3

 

"خطاب مضاد.. ورقابة"

بدوره، يرى المتابع للشأن الديني حسين هشام القضية من منظور آخر، ويقول لـ "الترا عراق"، إنّ "مادة بعض الخطباء لا تصلح للنشر والتداول العام، لكن التطور التكنولوجي سهّل وصول هذا النوع من الخطاب إلى المجتمع، عبر الوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي"، مشيرًا إلى "توجه نوعي مضاد يخوضوه بعض الخطباء ضد الفئة غير المؤهلة منهم، عبر تقديم الخطاب النافع والمعرفة السليمة".

يرى مراقبون أنّ وجود "الخطباء الطائفيين" لم يتحوّل إلى ظاهرة بعد في ظل خطوات دينية وقانونية لضبط المحتوى

لا يعتقد هشام أنّ وجود "الخطباء الطائفيين" بات ظاهرة، مبينًا أنّ "هناك بعض الخطباء الذين يتحدثون بهذا النفس هنا وهناك يظهرون بين فترة وأخرى، والأمر بدأ ينحسر مع تفعيل القوانين المتعلّقة بهذه القضايا".

كما يرى أنّ هناك "خطوات جيدة" تلعبها المؤسسة الدينية في ضبط "سلوك الخطباء، عبر تشديد ضوابط الانتماء للحوزة العلميّة، والاستمرار فيها، واشتراطات ارتداء الزيّ الديني، وهذه تشمل الخطيب وغيره، فضلاً عن جهود تتعلّق بتطوير مهارات الخطباء عبر ندوات ودورات وما شابه، ومن جهة أخرى زج خطباء من أصحاب الكفاءة والدراية في فضاء المجتمع".