ربما اعتاد المتابعون للشأن السياسي العراقي على غموض البيانات والتصريحات التي تخرج من السفارة الأمريكية في بغداد، وكلاسيكيتها المملة في التعليق على الأحداث الجارية في البلاد، لكن مثل أي شيء في عهد ترامب، كان حديث القائم بأعمال السفارة الأمريكية للصحفيين في 19 شباط/ فبراير، غريبًا بل صادمًا لبعض المتابعين، بعد أن تحدث عن تطابق في الرؤى بين واقع التواجد العسكري الأمريكي وما يُريده "اللاعبون الأساسيون" في العراق مثل هادي العامري وقيس الخزعلي.
مثل أي شيء في عهد ترامب.. كان حديث القائم بأعمال السفارة الأمريكية للصحفيين غريبًا بل صادمًا لبعض المتابعين
جرت قنوات اتصال متعدّدة بين العامري والأمريكيين إبان الحرب على داعش، ومن المفيد الإشارة إلى "حادثة الزولية"، إذ يتذكر العراقيون ما حصل في استعراض سابق لقوات بدر التابعة للعامري، حين رُسم العلمان الإسرائيلي والأمريكي على الأرض بهدف دهسهما خلال الاستعراض، لكن سرعان ما ـ والمُرجح بأوامر عُليا ـ تم تغطية العلم الأمريكي بسجادة.
اقرأ/ي أيضًا: السفارة الأمريكية: نعمل بما يريده الخزعلي والعامري وخروجنا سيكلفكم الأمن
لا يُثير ذكر العامري الاستغراب الشديد، لكن ذكر الأمين العام لعصائب أهل الحق قيس الخزعلي على لسان شخصية رفيعة يُعد تحولًا كبيرًا في لغة الخطاب الأمريكي الرسمي. فعلى سبيل المثال، تضع قناة الحرة الأمريكية خطوطًا حمراء على موظفيها فيما يخص الضيوف التابعين لحركتي عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله.
أما من ناحيتهما، فالخزعلي هدّد قبل أقل من شهرين، وبشكلٍ واضح، القوات الأمريكية، إذ توعد بإخراجها عبر البرلمان أو "بطريقة أخرى يعرفونها". والناطق باسم الكتائب كشف عن رفضِ الحركة تَسلُم رسالة من القوات الأمريكية عبر مكتب الأمم المتحدة، وطالبهم بإعلان ما يُريدوه في الإعلام، وقد جاء الرد الأمريكي عبر الإعلام بعد يومين فقط!.
الحشدُ بحلةٍ جديدة؟
في تتبع الأحداث، يتضح سلوكًا جديدًا للحشد الشعبي على مستوى التصريح والتحركات، ويفترض أن قادة الفصائل المنضوية في هيئة الحشد أدركوا أهمية الاحتماء بحصن "الائتمار بأمرة القائد العام للقوات المسلحة" لتجنب أي ضغوط داخلية أو خارجية، والتحرك داخل الدولة بصفة الدولة وعنوانها الآمن.
وقد تكون هذه اللعبة مطلوبة من الجميع، ومفيدة للجميع، فرئيس الوزراء يؤكد دائمًا على مآثر الحشد الشعبي، وأشرك قوة من الحشد في استقبال رسمي لرئيس وزراء أستراليا لأول مرة رفقة البيشمركة. أما هيئة الحشد الشعبي فنفذت حملة قبل مدة قصيرة لغلق مكاتبَ لفصائلٍ قالت الهيئة إنها تدعي الانتماء زورًا للحشد، في خطوةٍ واضحة لإعطاء الانطباع الرسمي "المطلوب" للآخرين.
إن قادة الفصائل المنضوية في هيئة الحشد الشعبي أدركوا أهمية الائتمار بأمرة القائد العام للقوات المسلحة للتحرك داخل الدولة بصفة الدولة
إن سلطة السلاح لم تعد بتلك الأهمية التي اندرجت عليها إبان الحرب على تنظيم داعش، فلتحالف الفتح، وقد لا نخطأ إن وصفناه بالجناح السياسي لفصائل الحشد الشعبي، حضورٌ كبير في البرلمان العراقي، باعتباره القائمة الثانية الأكثر عددًا بعد سائرون، فضلًا عن رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض الذي انشق مع عدد من النواب عن تحالف حيدر العبادي ليشكل كتلة جديدة باسم "عطاء".
اقرأ/ي أيضًا: تصفية معلنة لحسابات طهران وواشنطن على مائدة العراق.. بومبيو "يتحرش" بالحشد
تبدو الصفة السياسية الممنوحة لهؤلاء "اللاعبون الأساسيون" باتت كافية للعمل، مقارنة مع المتاعب التي قد يجلبها العمل بالصفة العسكرية.
البراغماتية الخزعلية
عَكَفَ الخزعلي على تغيير خطابه السياسي بعد النجاح الساحق في الانتخابات النيابية الأخيرة، تزامن ذلك مع إقدام بعض الإعلاميين البارزين على تأكيد "التغيير" الذي طرأ على سلوكه السياسي من خلال الندوات واللقاءات والمقالات. أجرى أحدهم مؤخرًا لقاء صحفيًا مع الخزعلي تحدث فيه الأخير عن تفضيله لمصالح العراق على مصالح إيران، ورفضه تشبيه الحشد الشعبي بالحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، وضرورة إبعاد العراق عن الانضمام لـ "محور ما"، وتأكيده "عمق العراق العربي"، وقد لا يتوقع المُتابع أن التصريحات أعلاه صدرت من ذات الشخص الذي قال قبل أقل من سنتين إن حَركتهُ ماضيةٌ نحو مشروع "البدر الشيعي" وليس الهلال فحسب!.
ما يمكن سرده من "اعتقادات" وتأويلات، قاله الخزعلي بلسانه، إذ ذكر أن الفصيل الذي لا يستطيع التكيف سيضمحل، وقد سهّل علي الحديث عن براغماتيةٍ جديدةٍ يَسير بها الخزعلي تكيفًا مع الواقع والمستجدات، ولا يبدو أن الأمريكيين يجهلون هذا التغير، ولا ينوون التعامل معه.
هناك براغماتية جديدة يسير بها الخزعلي تكيفًا مع الواقع والمستجدات ولا يبدو أن واشنطن تجهل هذا التغيير
حين تمتلك نوابًا في مجلس النواب بهذا العدد، يعني أنك مضطرٌ للممارسة السياسة التي قد تدفعك لمجالسة الأغيار، بل وأعدائك في بعض الحالات، وهذه وحدها كفيلة بدق مسمار التغيير في سلوكك العسكري السابق.
العصا والجزرة
برزت خلال عام، عشرات العناوين لتقارير غربية رسمية وصحفية تتحدث عن إمكانية عودة تنظيم الدولة "داعش" لترتيب صفوفه واستغلال الثغرات الأمنية في العراق وسوريا، ولأن هذه الأخبار لا تُقرأ "صحفيًا" بل سياسيًا، يظهر أن هناك ما تُخبأه الولايات المتحدة لهذه المنطقة. ولعل عمليات الخطف والقتل الأخيرة التي ينفذها التنظيم خير دليل على أن العصا جاهزةٌ في أي وقت.
تحدث القائم بأعمال السفارة الأمريكية في ذات المؤتمر عن ارتهان بقاء القوات الأمريكية بطلب الحكومة، ومغادرتها "مع التحالف والناتو والمستثمرين"، في حال طلبت الحكومة ذلك. كما لمّح إلى كلفة مغادرت تلك القوات وهي "الأمن"، وربط الاستثمارات الأجنبية ببقاء القوات الأمريكية في العراق، ثم عاد وأكد ذلك يوم الأربعاء حين تحدث عن 50 شركة استثمارية جلبتها الولايات المتحدة إلى العراق.
إنها العصا لكن بشكلٍ واضح وصريح لا يقبل التأويل: عصا الوضع الأمني الذي سينهار إن خرجنا. ويُذكرني هذا التصريح بخطاب جورج بوش أمام الكونغرس في 2007 حين لوح بسقوط محافظات بيد الإرهاب في حال انسحاب القوات الأمريكية من العراق عشية الضغوط الداخلية من أجل سحب تلك القوات.
لا أمن ولا استثمارات إن أخرجتمونا، هذه العصا التي لوحت بها السفارة الأمريكية، أما الجزرة فهي ذلك الاعتراف باللاعبين السياسيين كما أسماهم، والظن أن ذكر الخزعلي دون بقية الفصائل لا يعود لاستغلال البراغماتية الخزعلية الجديدة فحسب، بل لإدراك الولايات المتحدة أنها تُخاطب رئيس كتلة برلمانية من خمسة عشر نائبًا في مجلس النواب، لا نائبًا واحدًا كما كان الحال قبل آيار 2018.
إن ذكر الخزعلي لا يعود لاستغلال" البراغماتية الخزعلية" الجديدة فحسب بل لإدراك الولايات المتحدة أنها تخاطب رئيس كتلة برلمانية من 15 نائبًا
قد يُسبّب هذا الخطاب تحسسًا إيرانيًا، فضلًا عن تحسس عراقيّ من هذا التهديد المبطن، وربما كان اتهامُ الخزعلي وحركة النجباء المنضوية في الحشد الشعبي للولايات المتحدة بالوقوف وراء عمليات خطف داعش للمدنيين دليلًا على فهمِ الرسالة الأمريكية والرد عليها، لكن التعامل مع هذه العصا والجزرة الأمريكية سيكون أكثر وضوحًا في الأيام المقبلة، وما الفصل التشريعي البرلماني الثاني ببعيد.
اقرأ/ي أيضًا: