ولما كانت الدولة بالنسبة لهم أسرة كبيرة أو هي امتداد لأسرهم الصغيرة انعدم وجود الشخصية المستقلة عندهم.. كانت العلاقة السائدة هي العلافة الأبوية البطرياركية التي تجعل من الأب كل شيء ومن الأبناء لا شيء.. وينطبق ذلك على الأسرة الكبيرة التي هي الدولة، فيظهر أب للجميع يتمثّل في شخص الأمبراطور. أمام عبد الفتاح أمام، من مقدمته لكتاب "العالم الشرقي" لهيغل.
هؤلاء الطغاة، أصحيحٌ يا ربي
إنّهم مرّوا من بين أنامِلكَ
الشفيفةِ، وتحمّلتهم؟!
عدنان الصائغ
الحنين لدكتاتور معتوه مثل صدام حسين باعتباره لحظة تاريخية تمثل "الزمن الجميل" يعطينا مؤشرًا لافتًا عن تلك الظاهرة التي ظلت قيد التداول في ثقافتنا، وأعني بها عبادة الدكتاتور. وفي بلد مثل العراق تشكّل ثقافته نسقًا مترابطًا من سلسلة متصلة ترتبط حلقاتها بإحكام بين الماضي والحاضر، فلم يجرِ عليها أي تعديل يذكر حتى هذه اللحظة، إذ لا زالت ثقافتنا تتوجس من الغريب والوافد، فتنتصر في كل مرّة لصناعتها المحلية، والدكتاتور صناعة محلية بامتياز. فمن هذه الناحية يغدو زمننا الثقافي زمنًا جامدًا ورتيبًا، لم يتعرّض لهزّات جذرية تخلخل بعض الأسس الثقافية، وتصلح بعض أعطابه المزمنة وأعني بها بالضبط ثقافة عبادة الدكتاتور.
الحنين إلى صدام حسين من قبل فئات اجتماعية ليست بالقليلة، هو حنين للقيم والتقاليد التي تشكّل سياقنا الثقافي
وإن كانت ثمّة حرية ما فهي هبة نفيسة تٌقدَّم للدكتاتور فحسب. فالحرية في الشرق، بتعبير هيغل، هي حرية الفرد الواحد، حرية الرئيس - الأب. وعلى الرغم من جبروت الدكتاتور وجنونه، غير أن هذا الحال لا يمنع من حالات "الاستبسال" من قبل الكثير للارتماء في حضنه بطوعية خالية من كل إكراه. إنهم لا ينفون الإكراه، بل ينفون الحرية بإطلاق! أنهم يخشون على أواصرهم العائلية أن تتمزق ويصيرون أيتامًا بلا أب- دكتاتور. ولو كانت كل هذه الميول والنزوعات الحزينة تجاه شخص مجنون مُكَرّسَة لحب الوطن لما ضاع بين العوائل الطائفية، ولما أنتجنا ذلك الجنوح المرعب لتضخيم السلطة على حساب الدولة. أمر غريب جدًا، أن نقدّس الدكتاتور ونختزل فيه ذاكرة الوطن!
اقرأ/ي أيضًا: الدولة اليتيمة
ويبدو أن الناس لا تعد الحرية والازدهار من ضمن اولوياتها، بقدر ما يحتل الأمن الأساس المتين، والجسر الذي يمكن أن ينقلهم إلى حيث الحرية والازدهار. غير أن الشرط اللازم لهذا الانتقال هو التخلي عن عبادة الدكتاتور تحت أي مبرّر كان. وليس بالضرورة أن يكون الدكتاتور رئيسًا لأعلى سلطة سياسية، فروح الدكتاتور تتجلى في كل مسامات حياتنا اليومية، ابتداءً من نظمنا الاجتماعية ونهاية بأعلى سلطة سياسية، وليس صدام حسين سوى الشكل الأرقى والنتيجة المنطقية لهذا السياق. فالحنين إلى صدام حسين من قبل فئات اجتماعية ليست بالقليلة، هو حنين للقيم والتقاليد التي تشكّل سياقنا الثقافي. ولا أدل من ذلك أننا وحتى هذه اللحظة لم نبرهن، لا في سلوكنا الاجتماعي ولا السياسي من أننا غادرنا روح الاستبداد.
كان صدام من هذه الناحية، النموذج المثالي لروح الاستبداد باعتباره "الشخصية المفهومية" التي جسدت "البطل الأوحد"! ذلك البطل الذي تباكى كثيرًا على فلسطين، وكان شعاره "عاشت فلسطين حرة عربية" هو خاتمة لكل خطاباته اليومية المملّة. لكن دكتاتورنا المعتوه ترك فلسطين واحتل الكويت! لكن.. لا زال عبيده، وحتى هذه اللحظة، يقدمون له كل فروض الطاعة والولاء. يكفي أن يبرر له هؤلاء العبيد، من أن الأمن والأمان (كأولوية قصوى) أحد منجزات صدام حسين. لكن بمزيد من الانتباه والتأني، ولا أظن تحتاج إلى بصيرة عميقة. إن الأمن الاجتماعي كان معدومًا في زمن الطاغية؛ فأنت مرشح للسجن أو الإعدام المباشر لو كنت موضوعًا للشك، وخطرًا متخيلًا يهدد أمن السيد الرئيس، لكن العبيد لا يفهمون الحرية إلّا من حيث هي قلق يهدد بنيانهم، فماذا تعني لهم حرية التفكير والكرامة الإنسانية سوى هذيانات.
قد يقال إن بعض العراقيين يأخذهم الحنين إلى ذلك "الزمن الجميل" كونهم من الفئات التي كانت متفيئة بظل السلطة. غير أن هذا الجواب لا تصادق عليه الكثير من الوقائع الاجتماعية؛ فقد انخرط كثير من الناس في هذا الكرنفال، حتى من لم يعاصروا صدام حسين. إن المتباكين على مغانم السلطة بحجة الزمن الجميل كثيرون ولله الحمد، ولدينا عينات كثيرة متشابهة حد التطابق في بكائها على هذا الزمن الجميل، أعني زمن السلطة الحالية. فقد تجد عينات اجتماعية كثيرة تتباكى على العبودية وهي في أسفل درك من الفقر. إذن، إن كان لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحرك العواطف الجياشة لهؤلاء الناس؟ لماذا علينا أن نستمع لهذا الهراء شبه اليومي؟ وهل علينا أن نكون عبيدًا جيدين للدكتاتور لنعزز مصداقيتنا الوطنية.
لن اتكلم عن انعدام النموذج، ولن اتكلم عما يجري في لحظتنا الحالية من ألم ومعاناة، فسلسلة المقالات المتعلقة بهذا الشأن بلغت حدًا ربما يثير الملل والتكرار. لكن هل يبرر انعدام النموذج بروز الحنين إلى الطاغية؟ فهذا الأخير يمارس أعلى درجات الإكراه؛ ينفي الحياة، وتغدو هذه الأخيرة مشروطة بأمنه الشخصي، بل تغدو الحياة منحة يتفضل بها الطاغية متى ما أحسن الناس قواعد القطيع المهذبة! إن انعدام النموذج لا يفضى بالضرورة إلى شيوع حالة العبودية تجاه الدكتاتور. إن انعدام النموذج قد يقود إلى الطغيان، لكنّه لا يرسخّه مالم يكن السياق الثقافي مستعدًا لتقبّل روح الطغيان. معلوم أن انعدام النموذج مقدمة لانحطاط كبير، غير أن الإشكالية الجوهرية في هذا كله هو وجود بنية ثقافية راسخة متصالحة مع الدكتاتور بشكل وبآخر. وبصرف النظر عن ميل بعض الناس إلى سجن العبودية، وهذا ما يقودهم لاحقًا إلى الارتماء في حظ الطاغية، لكنّ المشكلة العويصة هنا وبالذات: إن سياقنا الثقافي لم يحسم أمره بعد حول القطيعة مع الدكتاتور. إن روح الشر لا تظهر بشكل عفوي ومباشر مالم تجد لها مكانًا في الذاكرة الثقافية لفترات طويلة. لا زالت روح الدكتاتور تتلاءم مع الهاجس الأساسي لكثير من الناس. وينبغي ألّا ننسى أن تجليات الدكتاتور لا زالت قابعة في أعماقنا المظلمة، الدكتاتور لم يمت بعد.
اقرأ/ي أيضًا: