13-يونيو-2019

الضعيف بهذا العالم يؤكل سياسيًا واقتصاديًا (قيسبوك)

لم يكن غريبًا على إمبراطورية مثل الولايات المتحدة أن تفرز ديمقراطيتها رئيسًا ضمن مقاسات ترامب. الأمر هنا لا يحتمل المثاليات الأمريكية ولا يقام وزن للنخبة الليبرالية؛ فهذه الإمبراطورية مهددة بالتراجع على حساب قوى صاعدة مثل الصين، وحتى لو كانت أمريكا معقل الليبرالية والتجارة الحرة، فلا يوجد مانع من ضرب التجارة الحرة على يد الأمريكان أنفسهم بواسطة رئيسهم المنتخب من أغلبية البيض الذين أيدوا بحماس سياساته الحمائية.

إن الخطاب الذي يتبناه ترامب ليس جديدًا على ذهنية الإمبراطورية الأمريكية. الجديد في الأمر أن هذا الخطاب اتخذ صياغته الرسمية في عهد ترامب

يذكر أحد الكتاب، أن الخطاب الذي يتبناه ترامب ليس جديدًا على ذهنية الإمبراطورية. الجديد في الأمر إن هذا الخطاب اتخذ صياغته الرسمية في عهد ترامب. بمعنى انه كان متناولًا في أروقة المؤسسات كخطاب غير رسمي، ومن ثم تحول إلى نشيد السياسة الأمريكية الرسمية. ينقل الكاتب شكوى أحد الخبراء الأمريكان في جلسة حوارية مفادها، إن هذا الخبير يشعر بالتذمّر لان الأسطول الأمريكي يقوم بحماية بحار العالم ولا أحد يدفع له!. إن جوهر اعتراض الأمريكان على ترامب لا ينطلق من مبدأ أخلاقي، يقول الكاتب، بل على العكس من ذلك، هم فرحون لهذه السياسة، أن جوهر اعتراضهم على طريقة ترامب الرخيصة في خطاباته التي لا تنسجم مع شكل الإمبراطورية الأمريكية الديمقراطية. والدليل على ذلك جاء ترامب بأصوات الأمريكان وليس غيرهم.

اقرأ/ي أيضًا: نادي القمار الكبير

لا تجارة حرّة ولا بطيخ!؛ الصين قادمة وبقوة، وما يقلق الأمريكان ليس عجز الميزان التجاري الذي يميل لصالح الصين، فالإمبراطوريات السابقة كانت تعاني من هذا العجز وتغطيه من مستعمراتها. ما يقلق النخب الأمريكية هو اقتراب الصين من حيازة التكنولوجيا المتقدمة وظهور إمبراطورية جديدة تنافس الولايات المتحدة على النفوذ العالمي، وهذه من المحرمات في قاموس القوة الإمبراطوري؛ لا بد أن تبقى الاحتكارات بيد الثالوث الرأسمالي حسب تعبير سمير أمين: الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان. ولكي يبقى  الاستقطاب  بيد هذه المراكز الثلاثة ، يقول سمير أمين،  لا بد من إقامة تقسيم عمل دولي على أسس غير متكافئة، وانفراد هذه الأقطاب الثلاثة بالإنتاج الصناعي، وتخصيص دول الأطراف لإنتاج الخامات الزراعية والمعدنية للتصدير، مما يضمن تبادلًا غير متكافئ مع دول المركز. مختصر القصة: أن تبقى الصين بمستوى الدول النامية ولا يحق لها الحصول على الاحتكارات الصناعية المتقدمة وخصوصًا التكنولوجيا المعقدة، وأن تدخل كقطب رأسمالي رابع يهدد الامتيازات الحصرية لدول الثالوث. وبعدها يتحول العالم متعدد الأقطاب، وربما تلحق الركب روسيا والهند.

 الضربة التي قدمتها الولايات المتحدة لشركة هواوي مفادها: تبقى الاحتكارات التكنولوجية المتقدمة بيدنا، ولا يحق لكم حيازتها إلا تحت إشرافنا. ولا يقتصر الأمر على هذه الضربة، بل أكثر من ذلك، تعزيز قوة اليابان وكوريا الجنوبية كـ"طواق عازل" ضد الصعود الصيني، وضمان الهيمنة الأمريكية على أسيا الوسطى وتحييد النفوذ الصيني والروسي هناك لضمان ديمومة هيمنة القوة الأمريكية. لم يعد ثمّة شيء مخفي، فالولايات المتحدة تعلن تفردها وهيمنتها على العالم وضربها كل المعايير والمؤسسات والحلفاء.

في كتابه "الأمة التي يمكن الاستغناء عنها" يقول ولي نصر، إن "إسرائيل" قضية محلية أمريكية أكثر من كونها مسألة خارجية. وعدد كبير من الأمريكيين يهتم لأمر "إسرائيل" لأسباب دينية وأخرى ثقافية..  ويشير ولي نصر، إلى أن جورج دبليو بوش حاول أن يجد حلًا للصراع العربي الإسرائيلي عبر "تغيير" العالم العربي. وسياسات القوة للمهيمن الأمريكي تستثني كل القوى الأخرى وتقتصر على القوة العسكرية، ومنذ "التغيير" الذي أطلقه بوش تحولت المنطقة إلى جحيم لا يطاق. وبهذا لا تبقى رقعة في هذا العالم آمنة من قوة المهيمن. والقضية لا تتعلق بسبعة ملايين يهودي لا يطالهم الدمار، ولا قضية "ديمقراطية" إسرائيلية، وإنما بما تحمله هذه النخب من قوة اقتصادية هائلة مهيمنة على القرار العالمي، ومن الصعب للغاية التطرّق  للسياسات الصهاينة الحسّاسة في الدول الديمقراطية، بل ستجري على ألسن الساسة الغربيين كإسقاط فرض ليس إلّا. المعايير هنا لا علاقة لها بأي شيء ماعدا القوة، بمعنى أن النخبة الصهيونية تستولي على كل مقدرات القوة، ولولاها سيكون حال الصهاينة مثل حال محمد بن سلمان، لا يسلمون من أي إهانة لأنهم لا يمتلكون ترف الاختيار كعملاء. حينما تنعدم القوة تظهر كائنات بشرية تحكم العالم العربي مثل السيسي والحريري، وسيكون علينا تحمّل خطاباتهم الكاريكاتورية، لأننا، كذلك، لا نتملك ترف الاختيار كضعفاء، وسنكون عرضة لكل أساطير الكون وخرافاته، وسنشتم ذواتنا ونرثي حالها، لأننا لا ننتمي لنادي الأقوياء ببساطة شديدة.

العالم تحكمه القوّة. وحدها القوّة من تحدد مصائر الشعوب. تسقط حضارات وتظهر أخرى بسبب القوّة وليس شيئاً آخر. وأجلى مظاهر القوّة تبدأ بالهيمنة الاقتصادية. لا يتحرّك العالم ضمن حقوق الإنسان والديمقراطية فهذه أمور تنفع في السياسات الداخلية. يمكن أن تتحول أي منطقة في هذا العالم إلى جهنّم حمراء وتدفع الشعوب ثمنًا كبيرًا ليس لشيء سوى أنها تتربّع على أرض غنيّة بالثروات أو منطقة إستراتيجية مهمة في الجغرافيا السياسية.  الويل للضعيف في هذا العالم. الويل لمن لا يملك القوّة. مهما كان مدللًا في بداية الأمر فعمره قصير، ومن يشاهد مملكة آل سعود ورغم الهبات التي يقدمونها لأسيادهم، لكنّهم ليسوا بمأمن من إهانة المهيمن. لا أمل في هذا النظام العالمي المتوّحش الذي ندفع أثمانه إلا بانتظار القوى البازغة على المسرح العالمي، لنضمن على الأقل عالمًا متعدد الأقطاب. وبالمناسبة لا يعني هذا أن الصين ستكون أكثر رحمة من أمريكا، بل سيتاح لبلدان الجنوب، مرّة أخرى، "اللعب على الحبلين"، مثلنا كانت هذه البلدان تتجه صوب الاتحاد السوفيتي إن لم تلبي لها أمريكا مطالبها والعكس صحيح. فلا نتكلم هنا عن "ضمير عالمي"، فقد شاهدنا هذا الأخير في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر، لقد شاهدنا ماذا يعني أن تكون عاريًا بلا قوة وتستنزف قواك لمناشدة "ضمير عالمي" لا يوجد إلا في ذهنك.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حروب الإمبراطورية الأمريكية المسكوت عنها.. غطرسة الجنرالات!

إستراتيجية ترامب للأمن القومي.. صورةٌ جديدة للغطرسة الأمريكية القديمة