كانت لحظة فارقة هي دخول الجيش العراقي إلى كركوك ومناطق ما قبل الخط الأزرق، في عمليات فرض القانون عشية الاستفتاء على انفصال إقليم كردستان الذي أجراه رئيسه آنذاك مسعود بارزاني. فارقةٌ لأنها جاءت بعد سنوات من هيمنة الإقليم على قرارات المركز، وفرض سلطته على كركوك ومناطق سهل نينوى وغيرها، فضلًا عن إيوائه لمطلوبين وفاريّن من بغداد علنًا.
ذهبت القوة التي كسبتها بغداد أدراج الرياح حالما وصل عبد المهدي إلى سدة الحكم. خاصة بما يتعلق بالموازنة التي صيغت بعقل غير سهل
قُلنا في حينها، في الأيام التي فاضت فيها مشاعر الحب من صدور الذين لجأوا لرفع راية الحب هربًا من اتخاذ المواقف الحاسمة، قُلنا إنها معركة بين بغداد وأربيل، بغض النظر عن التدخلات الخارجية والوضع الإقليمي، والمُنتصر في هذه المعركة سيفرض شروطه وهيمنته بعد حين، وكفة بغداد هي كفة الدولة، كما ندّعي.
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: استفتاء كردستان العراق.. تداعياته ومستقبل الأزمة
انتصرت بغداد باتفاقها مع السليمانية وأفشلت الاستفتاء الذي دعمه الصهاينة علنًا، وجلس برنارند ليفي مع بارزاني يقسمون "التفاحة" في صورةٍ مثّلت قمة الاستهتار والاستخفاف بالعراقيين والعرب في أكثر حالات ضعفهم. فرضت بغداد القانون دون سفك للدماء، وبالفعل، ازداد قرار بغداد قوة، بل أن النظرة التي كانت سائدة عن رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي بأنه ضعيف، صارت تتلاشى بفعل نجاحه في هذه القضية، وكذلك تحديده نسبة الإقليم في الموازنة وما يتوافق مع حصتها الحقيقية دون مجاملات اعتاد الساسة الشيعة عليها منذ 2003، والكثير من مواقفه الحازمة تجاه الإقليم.
لكن القوة التي كسبتها بغداد ذهبت أدراج الرياح حالما وصل عادل عبد المهدي إلى سدة الحكم. أكبر بشائر النصر لإقليم كردستان كانت في حصته من الموازنة الاتحادية، التي صيغت بعقل غير سهل، بحيث تتوزع استحقاقات الإقليم هنا وهناك إلى أن تصل إلى 26% دون تحديد هذه النسبة جهرًا. ثلاث محافظات تأخذ أكثر من ربع الموازنة العراقية! .. أنها مَكرُمات عبد المهدي.
نثر رئيس الوزراء موازنته على أربيل في الوقت الذي لا زالت البصرة ـ منبع أموال الموازنة ـ بحاجة إلى مياه صالحة للشرب، وكهرباء مستمرة تقي أطفالها حر صيفهم اللاهب. والموازنة ليست وحدها، بل نثر وزارات على حزب بارزاني رغم انقسام البيت الكردي وخلاف الحزب الديموقراطي مع الاتحاد الوطني، وأعطى وزارة المالية هديةً لرجل مسعود الذي أراده رئيسًا للعراق وسقط في التصويت، وصيّره نائبًا له في الملف الاقتصادي. وإلى الآن، لم يستطع تسمية وزيرًا للعدل بسبب إصرار حزب بارزاني على عدم ذهاب المنصب لغريمه الاتحاد الوطني الذي ظفر برئاسة الجمهورية.
لا أعتقد أن عبد المهدي يستجيب لضغوط خارجية فحسب. لقد وضِعت بعد سقوط نظام صدام حسين نسبة الـ 17% للإقليم تعويضًا عن معاناة الكرد من النظام، واستطاعت السلطات في الإقليم إعمار محافظاته بشكلٍ مقبول على نحو كبير مقارنة بالمحافظات العربية، لكن ما الذي دعا إلى أن تقفز النسبة إلى 26% بعد كل هذه السنوات من الاستقرار؟ هل هو تعويض عن فشل الانفصال مثلًا؟
واضحٌ أن عبد المهدي لديه ميول للإقليم والأقلمة.. ميول للساسة الكرد، رفاق الدرب مع المجلس الأعلى الذي كان عبد المهدي جزءًا منه
واضحٌ أن الرجل ـ أي عبد المهدي ـ لديه ميول للإقليم والأقلمة!.. ميول للساسة الكرد، رفاق الدرب مع المجلس الأعلى الذي كان عبد المهدي جزءًا منه، وميول للأقلمة، وهو الذي قال بعد أربع سنوات من سقوط النظام إن حل العراق بفدرلته، لذلك، فليس ببعيدٍ أن تكون حصة الإقليم من الموازنة مقصودة ـ مع الترضيات ـ لدفع البصرة باتجاه إعلان الإقليم. وإلا ماذا يعني أن تُقدّم كل تلك التنازلات في الوقت الذي تستلم فيه السلطة وبغداد أقوى بفعل تصرفات الرئيس الذي سبقك، وبفعل انفتاح العالم والدول العربية والإقليمية ودعمها لبغداد؟
اقرأ/ي أيضًا: عبد المهدي والكرد.. "صداقة" قديمة و"تفريط" قد يؤدي إلى حرب!
ربما نحتاج إلى عشرات الصفحات إذا ما أردنا الحديث عن وضع الجمارك في الإقليم وكيف تؤثر على سلع بغداد والمحافظات الجنوبية، وعن استمرار الإقليم بتصدير النفط بصورة غير شرعية، وعن عدم دفعه للديون المترتبة عليه لبغداد، لكننا اختصارًا وضعنا الشواهد الأساسية للكيفية التي يتعامل بها هذا الرئيس مع الساسة الكرد.
لا بد من التأكيد دائمًا أننا لسنا ضد الشعب الكردي وحقوقه القومية بالإضافة إلى حقوقه الاقتصادية في البلاد، هذه محفوظةٌ واجبة الترديد لكي لا يستغل حديثنا المتذاكون لاستخدام مقولات "الشوفينية" و"الدكتاتورية" المُستهلَكة، لكن الحزب الحاكم في أربيل لديه معادلةٌ تقول إن "ازدهار كردستان بخراب بغداد"، ونحن مضطرون أن لا نثق بمن يمتلك هذه الذهنية التي يترتب عليها الكثير من الإسقاطات، كما أننا نخوض في سر الهدايا التي يمنحها رئيس الوزراء لأربيل بعد فشل عملية الانفصال.
أما موضوع الساعة، فهو الأنباء التي تحدثت عن اعتقال محافظ كركوك السابق نجم الدين كريم ونفاها مكتبه بعد فوات الأوان. هذا المحافظ الذي هدّد وتوعد الجيش العراقي وأدخل كركوك في عملية الاستفتاء رغمًا عن عربها وتركمانها ومسيحييها.
المحافظ المتهم باختلاس ملايين الدولارات، يُعتقل في لبنان ويتدخل عبد المهدي لإطلاق سراحه بمساعٍ من بارزاني ـ بحسب سياسيين كرد ـ يخرج المحافظ بكل ثقة وينفي نبأ اعتقاله ويَعدُ بالمجيء إلى إقليم كردستان، ولسان حاله يقول: هل في بغداد رجالٌ يمنعوني؟
صار نجم الدين وصورته وهو يرتدي الخوذة العسكرية ويقف منتظرًا الجيش العراقي، أيقونة للسخرية من قبل الشباب في مواقع التواصل الاجتماعي بعد فراره أثناء دخول الجيش إلى كركوك آنذاك
لقد صار نجم الدين وصورته وهو يرتدي الخوذة العسكرية ويقف منتظرًا الجيش العراقي، أيقونة للسخرية من قبل الشباب في مواقع التواصل الاجتماعي بعد فراره أثناء دخول الجيش إلى كركوك آنذاك. وهو الآن "البطل" الذي يتحدى الدولة والقانون بفضل حكومة بغداد ومن نصّبها.
أيُ دولةٍ يُريد المتفائلون بنائها بواسطة عبد المهدي وهو يتعامل بهذه الطريقة مع محافظٍ هدد جيش البلاد واختلس بالجرم المشهود ؟ أي إصلاح يُريده "المصلحون" وأي مجلس لمحاربة الفساد يقوده عبد المهدي وهو يتوسط لإخراج معتقل فاسد من قبضة إنتربول أو من الأمن اللبناني؟
هذا الضعف في بغداد لا يُنبئ بأي إصلاح. هذا الضعف لا يردع فاسد من الفساد، ولا يُخيف جارًا، ولا يمنع عميلًا. إنه ينزع الهيبة من الدولة، ويفسح المجال لمن يُريد العبث فيها، ويعطي الشرعية للخارجين عن القانون والذين لا يحترمون العراق وشعبه وسيادته ووحدته.
بات مملًا الحديثُ عن التدخلات الخارجية في كل صغيرة وكبيرة. إن الولايات المتحدة وإيران توافقتا "أو وافقتا" على شخصية حيدر العبادي لتولي رئاسة الوزراء بعد فشل المالكي، قبل أن يختلفا عليه في 2018، كما توافقتا "أو وافقتا أغلب الظن" على عبد المهدي، وشتّان بين تعامل كل منهما مع العائلة الحاكمة في أربيل. وهذا دليلٌ على أن الوضع في الداخل هو الفيصل في تعامل الخارج معه. مع هذا، فوجود مركز ضعيف ضرورة لأي محتل أو مهيمن؛ لكن اللوم يجب أن يوجه أولًا إلى النجف، للمرجع السيستاني والسيد الصدر، اللذان جاءا بهذا الرجل إلى الحكم، فهل من مصلحتهما أن تكون بغداد ضعيفة؟ بات عليهما الانتباه لما يفعله والحذر من خطواته بدل الحديث المتكرر عن المشاكل الاجتماعية. إن إصلاحَ الناسِ مستحيلٌ طالما رأوا المسؤول الفاسد منتصرٌ ومكرّمٌ. المجتمع لا يشعر إلا بالإهانة وهو يقرأ ويسمع مثل هذه الأخبار، وغيرها مما تقترفه أيدي ساسة البلاد، ومجتمعٌ يرى الإهانة في الدولة ورأسها لا يُطلب منه أن يكون قويمًا.
المجتمع لا يشعر إلا بالإهانة وهو يقرأ ويسمع مثل هذه الأخبار، وغيرها مما تقترفه أيدي ساسة البلاد، ومجتمعٌ يرى الإهانة في الدولة ورأسها لا يُطلب منه أن يكون قويمًا
هي أمورٌ مرتبطة ببعضها، مالذي يُمكن أن نتوقعه من عبد المهدي بعد الآن في ملف كركوك والمناطق المتنازع عليها؟ ومن يتعامل مع شركاء في بلاده بهذا الخضوع، مالذي يُخفيه في اتفاقياته مع الدول الخارجية كاتفاقية مصر والأردن؟
اقرأ/ي أيضًا:
أمريكي "فاسد" و"منشق".. هل تدخل عبد المهدي للإفراج عن نجم الدين كريم؟
كركوك.. تضارب حول المحافظ الجديد والسابق يعود ملوحًا بالبيشمركة