لماذا لم تحسم الناس قضاياها التاريخية على الرغم من وجود وثائق ومدونات تتعلق بهذه القضايا؟ لنأخذ مثلًا حادثة السقيفة؛ فالمصادر التاريخية المطولة تكفّلت بتبيان هذا الحادثة بشكل مفصّل، لكن ظل هذا النزاع لأربعة عشر قرنًا ينفخ في جمر الصراع المذهبي ولا زالت النتائج كما هي عليه. والناس، كما هو معلوم، منفعلة لا فاعلة. لكن الطريف في الأمر هو أن الفاعل والمنفعل يحيلان إلى بعضهما. بمعنى أن الباحثين والقرّاء، بخصوص هذا الأمر المذهبي بالتحديد، يتساوون من حيث الحماس، ويتحول البحث التأريخي إلى حمّى عقائدية. لا أقصد بهذه الحمّى اقتصارها على الكفاح العاطفي المألوف وإنما يصل بها الأمر أن تترجم مقولاتها العقائدية على شكل بحوث علمية! وتُسوَّق هذه المقولات على أنّها مسلّمات وبداهات حتى أنها تستغرب لماذا لم يصل الآخرون لهذه الحقيقية "الساطعة". إذن، على الرغم من وجود الوثيقة التاريخية لكن جدل "الأحقية" لم يحسم تمامًا بين السنة والشيعة.
يذكرني هذا الجدل المحموم حول تاريخنا السياسي، وهو يعاد كل سنة على أثر مناسبة 14 تموز، بصراع السقيفة والكيفية التي يستدعي بها الطائفيون هذا الحدث باجتراره على نحو ممل حتى عاد تقريبًا بلا جمهور ومشجعين. ذلك أن الكثير من المواضيع تندرج عندنا في خانة الموضة لغلبة الحس الشعبوي، وافتقار البلد إلى قوى اجتماعية تشارك فعلًا في التغيير، ونخبة مستنيرة تعيد قراءة تاريخنا السياسي والاجتماعي بعمق وموضوعية. طبعًا لا أقصد علي الوردي، وحنا بطاطو، ومجيد خدوري وغيرهم، وإنما أقصد لحظتنا الراهنة التي تحولت بعمومها إلى صراع تقليعات: النادي الملكي والنادي الجمهوري وما يحمله الفريقان من أساطير. وهي لحظة ربما تخلو من مؤرخين وعلماء اجتماع معروفين.
لماذا لم يٌحسم هذا الجدل في تاريخنا الحديث وبالخصوص في شقّه السياسي؟ لا زلنا نجهل مثلًا من أمَرَ فعلاً بتصفية العائلة المالكة بهذه الطريقة البشعة؟ لماذا نتخندق لقضايا تأريخية ونخرجها من حقلها العلمي وندخلها في دوامة الأيديولوجيا؟ لماذا تتخذ آرائنا السياسية صفة التعصب بحيث يغدو الدفاع عن طرف أو نظام سياسي ما كما لو أنه دفاع عن هوية صلبة؟ ما هو دور الوثيقة التاريخية من كل هذه الهستريا؟ غريب أمر العراق: لا ماضيه البعيد ولا القريب تم حسمهما، وعلى ما يظهر أن ثقافتنا تميل للشفاهي مفضّلة إيّاه على الوثيقة التاريخية المدروسة. في كل بلد توجد مدونات تأريخية توثق أحداثه السياسية. فثّمة جهد أكاديمي يتصدى للتحقيق في الوثيقة التأريخية.
في العراق فقط، على ما يبدو، يتنازع الناس على ماضِ لم يتجاوز القرن دون أن نصل لنتيجة واضحة. حين نتحدث عن الحقبة الملكية أو الجمهورية فلا يبرز أمامنا سوى هذا العدد الهائل من المذكرات الخالية من الجهد الأكاديمي إلا ما ندر. أي أن التحقيق الأكاديمي بالمقارنة مع المذكرات يبدو ضئيل الحجم، إذ تبقى المذكرات هي الكمية الأكثر التي أخذت على عاتقها سرد تاريخنا السياسي! لِمَن نحتكم لفهم الحقبة الجمهورية، وهي لا تبعد عنّا سوى 63 عامًا، لكاتب تحركه الأشواق اليسارية ولا يرى من عبد الكريم قاسم سوى خير مطلق وما عداه شر مطلق؟ أم لكاتب يجري بالضد من ذلك ويطبق نفس الثنائية على الحقبة الملكية؟ لماذا تتحكم في سير عملياتنا الفكرية ما يسميه أحد الباحثين بـ"أيديولوجيا الشطط"؟ الموضوع أكبر من عمليات المديح والثناء، وأكبر من الميول العاطفية للباشا نوري السعيد أو الزعيم عبد الكريم قاسم؛ إنها قضية دولة مُستلبة وحق ضائع وضرورة لم يمسسنا لحد الآن ضرّها. نحن منشغلون بتسجيل النقاط على خصومنا الوهميين؛ فمناسباتنا السياسية هي من أسوأ المناسبات التي تمر على هذا البلد، وهي فرصة ذهبية للكثير من العاطلين عن العمل في هذا اليوم لإظهار مواهبهم الشخصية في الولاءات المزيفة، والتي تتحول لاحقًا إلى خصومات وهمية.
اقرأ/ي أيضًا: