إن القبائل في مجتمع تقليدي غالبًا ما تكون متكافئة أو أكبر قوة من قوات الدولة في المدن، وهذا يعني أن نزوعهم الخاص إلى اللجوء إلى تراث مقدّس يمكن أن يكون محميًا ومؤيدًا. أرنست غلينر، عن كتاب "مجتمع مسلم".
في حالة الجهل البسيط يدرك المرء حدود جهله ولا يحتاج إلى استنزاف طاقة استثنائية لتبريره. فهو مدرك تمام الإدراك، من هذه الزاوية بالتحديد، قدراته المعرفية وإمكانياته في الفهم. وقد يكون هذا الإدراك لإمكانياته المحدودة خطوة مهمة لتوسيع دائرة الفهم لاحقًا إن أراد ذلك. ربما تترافق مع هذا الإدراك حالة من التواضع تمنحه طاقة مضاعفة لسهولة الفهم، لأنه خالٍ من التبرير والاستعلاء ووهم المعرفة، الذي يقوده إلى عبادة الذات. في حالات الجهل المركب لا يدرك المرء قصوره المعرفي ويكابر حد التبرير أن ما يحوزه من معرفة هي عين الصواب ودونها أضغاث أحلام! ربما ينقاد هذا النمط من الناس إلى الميل للنفور والتجاهل لكل إشارة تذكّره بقصوره المعرفي. ببساطة شديدة: إنه لا يدرك حدود جهله.
في الدولة الرخوة تتضخم وتهيمن الهويات الفرعية وبعكسها تضمر وتختفي بالتدريج تلك الهويات معلنةً ولائها الكامل للدولة وتخضع لإكراهات القانون
وبالتأكيد لا ينحصر الجهل في منظومة دينية أو أيديولوجية؛ فحصّة الأديان والأيديولوجيات، بمختلف توجهاتها، أفراد وجماعات، تزخر بهذه العيّنات بشكل واضح وكبير. وشيوع حالة الجهل عند هذا الدين أو هذا المذهب أو الأيديولوجيا يرتبط بعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية، وتبقى النصوص العسكرية في القرآن عرضة للتأويل والتبرير لدى الجماعات الدينية المتطرفة، وينقسم رجال الدين في مدى تطبيق هذه النصوص أو توقيفها بحسب السردية المذهبية التي ينتمي لها.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعل "شيعة السلطة"؟
على أي حال، يلعب المناخ الثقافي دورًا بارزًا في إسقاط قيمه الخاصة على هذا الدين أو الأيديولوجيا؛ فمن المستعجل، ربما، الكلام عن إسلام واحد، بل عدّة إسلامات، بشهادة محمد أركون، رغم اتفاقها في الخطوط العريضة. من الصعب التكلم، مثلًا، عن إسلام اندونيسي وإسلام سعودي وإسلام إيراني ووضعهم في قالب واحد. لذلك توجد مسيحية غربية وأخرى مشرقية، وتوجد بوذية تبتية وأخرى غربية (حديثة العهد) وبالمثل توجد ماركسية روسية، وماركسية صينية، وأخرى غربية.
ثمّة متدينين يمارسون نشاطاتهم في الحيّز العام بمعزل عن أي ارتباط بمؤسسة دينية تملي عليهم ماذا يقولون ويفعلون، باختصار: إنهم يتصرفون بوصفهم مواطنين وليسوا متدينين، وتبقى حياتهم الروحية الخاصة ملكًا لهم وليس لغيرهم في مجتمع يحترم التعددية وحرية الانتماء.
أمّا في البلدان التي تهيمن فيها المؤسسة الدينية، فالمواقف الاجتماعية والسياسية تتأثر طبقًا للمنزلة الروحية التي تتمتع بها المؤسسة الدينية، وتعتمد نوعية ودرجة هذه المنزلة على مدى رخاوة المؤسسات المدنية؛ في الدولة الرخوة تتضخم وتهيمن الهويات الفرعية وبعكسها تضمر وتختفي بالتدريج تلك الهويات معلنةً ولائها الكامل للدولة وتخضع لإكراهات القانون حتى لو عارضت عقيدتها الدينية.
لقد حافظت كنيسة روما على هيبة البابا ضمن حدود وإمكانيات حددتها الدولة الحديثة؛ تنظيم كنسي مميز، وولاء روحي من أتباع الكنيسة ضمن دولة (الفاتيكان)، مؤطرة بحدود وواجبات خاصة: إنّها الإدارة الروحية إن صح التعبير. حتى الجدل الذي يحدث بين رجال الدين والعلماء الطبيعيين يأخذ صيغة حوارية مُنَظَمَة وبأجواء ودية إلى حد كبير. وهذا يدلل على ما سقناه قبل قليل، من أن القيم الثقافية تلعب دورًا محوريًا في إسقاط قيمها الخاصة على هذا الدين أو ذاك. والقيم الثقافية الحديثة لعبت دورًا حاسمًا في هذا الحوار المستمر في الحضارة الغربية.
كذلك في الاتجاهات المذهبية لا تختلف المقاربة التالية: التشيّع العراقي، التشيع اللبناني، والتشيع الأذربيجاني. وأنا هنا أتكلم عن الشيعة الأثني عشرية بالتحديد. رغم وحدة السردية المذهبية، إلّا أنها تختلف بنسب ودرجات مختلفة بين هذه النماذج الثلاثة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. يا ترى هل حقًا أن هؤلاء الثلاثة متشابهون؟! وهل يمكن، عمليًا، فصل سلوكهم الاجتماعي، الذي ينتمي كلٌ منهم لثقافته المحلية، عن معتقدهم المذهبي الواحد، ووضعهم في سياق محدد؟
على أي حال، كلما كانت مؤسسات الدولة أكثر رسوخًا، كانت الممارسات المذهبية كالطقوس وغيرها أكثر مقبولية، وهذه الأخيرة نعني بها: مقبولية اجتماعية وقانونية، لأنها تنتظم تحت ظل مؤسسات الدولة، فلا أعني بـ"القبول" هنا هو الإذعان القسري والعقائدي، بل أحد الأنشطة الاجتماعية أو السياسية التي تقرّها الدولة العًلمانية التي لا تقصي الدين من الحيّز العام. فبهذا المعنى تغدو مقبولة. وبالتأكيد إن المناوشات الطائفية لا تتلاشى بالمطلق خصوصًا في بلد يزخر بالمذاهب والأديان والأثنيات، غير أنه يعتمد على قوة الدولة ومدى استيعابها لمثل هذه التحديات.
الظروف السياسية والتاريخية ولدت هذا الجهل الواضح عند شيعة العراق في إدارة مؤسسات الدولة، وعزوفهم الغريب عن تأسيس البنى التحتية للدولة الحديثة
وللجانب الاجتماعي والسياسي والثقافي دور محوري لصياغة الشخصية الشيعية العراقية. لقد لعبت التركيبة القبلية دورًا محوريًا في تاريخ العراق السياسي في ظل دولة كانت عبارة عن مركز وأطراف رخوة و سائبة في الدولة العثمانية، ودولة وليدة وناشئة في العراق الملكي؛ فكانت التمردات والانتفاضات التي حدثت، سواء في زمن الاحتلال العثماني أو الاحتلال البريطاني، ذات طابع قبلي بحت. إذ لم تكن القبيلة في يوم ما في صلح مع ولاة الأمور فضلًا عن الدولة الحديثة. وبما أن هذه الأغلبية القبلية وسمت نفسها بسمة التشيّع، فقد حملت معها أسفارها القبلية في رحلتها نحو التشيع. فكانت سمتان تنازع الشيعي العراقي: قيم القبلية الغائرة في الوجدان والتي تشكّل ماضيه وحاضره، ومعتقداته المذهبية التي ترفض الحكم الجائر، فضلًا عن أدبيات الطقس الحسيني الشائعة في العراق التي تكرّس هذا الاعتقاد. فاختلط هذا بذاك وتشكّلت منها شخصية الشيعي العراقي.
اقرأ/ي أيضًا: عن الأوغاد والألوان
فسواء كان الإبعاد قسريًا - بفعل العثمانيين والإنجليز لتعرضهم لمقاومة الشيعة - أو اختياريًا نظرًا للقيم التي ذكرناها، فالنتيجة واحدة: الجهل الواضح عند شيعة العراق في إدارة مؤسسات الدولة، وعزوفهم الغريب عن تأسيس البنى التحتية للدولة الحديثة. ومكابرتهم المستمرة لعدم الاعتراف بهذه الإشكالية المركزية في العراق. وللإنصاف ينبغي أن نضيف جسامة التحديات التي تعرضوا لها في عراق 2003، وخضوع الدولة العراقية إلى أكثر من مركز قرار، والانقسام الطائفي الذي ينخر في الجسد السياسي. لقد كانت هذه التحديات مقدمة إضافية لتعزيز إخفاقات الشيعة في بناء دولة المؤسسات. لكن هل يكفي هذا كمبرر؟ لا أتصور ذلك، خصوصًا أن العوامل التاريخية والثقافية التي ذكرناها تعزز هذه الإجابة.
ثم مفارقة لا تخلو ألم وطرافة في ذات الوقت: لقد أشرنا في أكثر من مقالة عن أهمية الممارسة السياسية بوصفها الحد الفاصل بين ما ندعيه ونرغبه وبين ممارستنا له. إن الأفكار السياسية لن تكتسب مصداقيتها ما لم تتحول إلى وقائع أي إلى ممارسة، وقد جرّب سياسيو الشيعة في العراق أدبياتهم في حقل الممارسة السياسة، وكانت نزعتهم حول السلطة لم تضع حدًا فاصلًا وصفة مميزة بين ما يحملونه من مثاليات سياسية وبين الممارسة العملية التي تعتبر علامة بارزة ومختبر دقيق لكل المقولات التي كانت تستوطن أذهاننا. ومن وجهة نظر بسيطة، إن الاعتراف بحدود جهلنا وأمراضنا الاجتماعية والسياسية هو الخطوة الأولى في اتساع رقعة المعرفة، وهذه الأخيرة ستقودنا للخطوة الثانية وهي الممارسة، وهذه الأخيرة ستقودنا للخطوة الثالثة وهي فهم حقيقة التمييز بين ما هو سياسي محض وما هو مذهبي! وإن إدارة الدولة لا تحتمل الأثنين. سنكتشف في حينها أن "المذهب الحق" يعني "السهر على راحة الخلق"، فهل أنتم قادرون على بناء دولة؟
اقرأ/ي أيضًا:
واشنطن بوست: لماذا يتظاهر الشباب الشيعة ضدّ الحكومة الشيعية؟