كان الدرس العراقي من أبرز الدروس الموجعة التي لقن فيها السياسي الغربي مجتمعنا دروسًا لا تمحوها الذاكرة، فقد جلب لنا "ديمقراطية توافقية" تتلاءم مع النسيج المجتمعي العراقي مثلما يزعمون، وأحكم وجوده في سفارة تعد من أكبر السفارات في العالم من حيث عدد الموظفين. لقد اخترع لنا السياسي الأمريكي لعبة التوازنات والمكونات وتعزيزها بخطاب طائفي مشؤوم.
لا علاقة للناخبين بالبرامج الانتخابية الحقيقية، إنما ينتخبون على أسس عقائدية
على هذا الأساس هبّت جحافل الناخبين العراقيين تتلمس طريقها لتعزيز رموزها الطائفية. معظم الناخبين اختاروا مرشحيهم على أسس عقائدية. بعبارة أخرى: إنهم يتحركون انطلاقًا من أوامر عقائدية بحتة، ولا علاقة لهم بالبرامج الانتخابية، كما ولا يعنيهم تحسين أمورهم الحياتية. فلا زال بعض الناخبين يستقتل للدفاع عن مرشحيه، ولا يستقتل بمطالبتهم بحقوقه لاحقًا. أتذكر في أحد كتب فردريك إنجلز يصف فيه بعض الجماعات اللا أبالية بأنهم "قطعان انتخابية"، والأمر مشابه عندنا، إذ لا أحد يهتم بظروفهم الحياتية القاسية، وهم، كما يبدو، قانعون بذلك. يخرج سكّان العشوائيات من بيوتهم التعيسة يهرولون لصناديق الانتخاب، وعند هذه العتبة تتوقف حياتهم تمامًا، كل ما عليهم أنهم ساهموا بصعود الانتهازيين إلى السلطة، وبعدها يصمتون صمت القبور. ويشتد الأمر ضراوة عند الجماعات العقائدية، حيث نسمع آلاف الخطابات التبريرية ويعتقدون أن المساس بمرشحيهم وقادتهم هو مساس بكبريائهم الشخصي.
اقرأ/ي أيضًا: العراق في المؤشر العربي.. إرث الاستبداد الثقيل
ولأن السياسي الأمريكي "براغماتي" لن يدّخر جهدًا في توسيع مساحة هذه الحفلة الطائفية، جلب لنا "معارضين" سابقين لحكم البعث، وقد تم تنصيبهم "ديمقراطيًا" لكي يلتهموا الأخضر واليابس ويجعلوا العراق في مقدمة الأنظمة الفاسدة التي لم يتوفّر لها نظير على مر التاريخ. وإن كان ثمّة بلاء تعاني منه هذه الأحزاب فهو الحقد الأسود على الديمقراطية، إذ لم تذكر مدوناتهم السياسية شيئًا يتصل بالديمقراطية قيد شعرة، غير أنهم وجدوا أنفسهم في مصادفة تاريخية، من أكبر المصادفات التاريخية إثارة للجدل، تسمح لهم المضي في حكم العراق على الطريقة الأمريكية المشؤومة.
إن الديمقراطية المحاصصاتية الموجودة في العراق عامل مهم من عوامل تكريس الانقسام المجتمعي: ديمقراطية تمهد لفواصل عميقة بين الشعب، وتتحوّل إلى ديمقراطية جماعات تفضي في نهاية المطاف إلى إضعاف وتقسيم الدولة وتشل مفاصلها، وتغدو المؤسسات "دكاكين" لأمراء الطوائف.
لا يزال بعض أبناء جلدتنا يقدمون قرابين المديح والثناء للفعل "الثوري" الأمريكي، ذلك الفعل الذي قلب موازين الواقع العراقي وجعله واقعًا "ديمقراطيًا"، وهذه أحدى المنن الأمريكية التي جلبها المارينز إلى العراق. بل يتهمنا بعض إخوتنا بالرجعية ويضعوننا في خيارات حمقاء، وهي التذكير بماضي البعث واستبداد صدام حسين، كما لو أنه مكتوب علينا استبدال الإذلال السابق بآخر لاحق. والحقيقة لا يزال النموذج الحالي نموذجًا غير صالح كمعيار للمقارنة، والتجربة شاخصة أمامنا وقد ذقنا، ولا نزال، مرارتها منذ سقوط نظام البعث وحتى هذه اللحظة. غير أن الإصرار لا يزال على أشدّه عند إخوتنا حول الدفاع عن "الديمقراطية" الأمريكية.
لكنّ كونداليزا رايس كان لها رأي آخر، ذلك أنها صرّحت أن دخولهم العراق لم يكن من أجل الديمقراطية، وإنما لإسقاط صدام حسين، المهم كانت الديمقراطية "زيادة خير". ولكي نكتوي بسعيرها الجهنمي باغتنا الداعشيون من كل حدب وصوب، وتاه العراقيون في فلك الحرب وتكبدوا خسائر فادحة تنضاف إلى سجل السرقات المفتوحة من قبل جماعة الخضراء. لكن وياللحسرة! فقد صرّح النزق الصريح ترامب ليظهر وشاية بغرمائه الديمقراطيين ويعلنها أمام الملأ باللغة الإنجليزية الفصيحة من أن أوباما والسيدة كلينتون صنعوا داعش، وعلى ما يبدو أنها سُنّة أمريكية في صنع الجماعات الإرهابية، فلا بد من ربيب أمريكي جديد ينوب عن تنظيم القاعدة على أن يكون إسلاميًا حصرًا.
اقرأ/ي أيضًا: القطاع العام في العراق.. المحاصصة في التعليم الابتدائي أيضًا!
الكلام يطول عن تاريخ الولايات المتحدة في صنع الحكام ويصعب علينا الإحاطة به في هذه العجالة، ومن تُستَثار حساسيّته العاطفية تجاه السياسة الغربية، فعليه أن يردّد مع نفسه هذه المقولة العزيزة على قلوب الكثيرإنها "سياسة مصالح" ليريح ضميره!.
لا يزال بعض أبناء جلدتنا يقدمون قرابين المديح والثناء للفعل "الثوري" الأمريكي، ذلك الفعل الذي قلب موازين الواقع العراقي وجعله واقعًا "ديمقراطيًا"
ما هي الكيفية التي تجعلنا نستلهم من التراث السياسي الغربي بلا إملاءات استعمارية؟ بعبارة أخرى، أن نعزّز الفعل الديمقراطي بمعزل عن السفارات واللوبيات. إن الجواب تقرّره دوائر البحث الأمريكية التي ترسم صورة النظام السياسي الملائم في منطقتنا، ودوائر البحث هذه عادةً ما تأتي نتائجها ملائمة حرفيًا لتطلعات اللوبي الصهيوني الذي يتخلل في كل مسامات القرار السياسي هناك، ولا يمكنه استيعاب تجربة ديمقراطية خارج كيانه المزعوم. وقد يتضح لاحقًا أننا "متوهمون" وقد أخذت "نظرية المؤامرة" منّا مأخذًا، إلى درجة إننا لم نفهم الكيفية التي يعاملنا بها السياسي الغربي الذي اتهمناه كثيرًا واتهمنا معه إسرائيل، حتى لو كبّدَنا حصارًا دام عقدين، ودمّر البنية التحتية وأرجع العراق إلى ما قبل التاريخ، أليست السياسة لعبة مصالح، فلماذا لا نكون مشاريع قتل مجانية لهذه اللعبة؟!
اقرأ/ي أيضًا: