روسيا تعلن انسحابها الجزئي من سوريا، "بعد تحقيق العمليات لأهدافها" كما قالت. قبل ذلك أعلن عن تيار معارض "ديمقراطي" التقت فيه روسيا مع الإمارات مع مصر، تيار الجربا، تيار معارض سوري ينطلق من القاهرة. كل هذا ووقف إطلاق النار سار، وأحاديث عن الترحيب بتمديده، والمؤتمرات الدولية الروسية الأمريكية، العنوان الوحيد للمبادرات والتسويات الممكنة.
الانشغال بمرحلة قادمة فيها "تيار معارض" مدعوم من روسيا، تعني أن الأمور سائرة نحو ترتيبات جديدة
بعيدًا عن تحليلات الموقف الروسي ومعاني الانسحاب وحجمه وأثره الحقيقي، وهل هو تخل عن الأسد أم لا، يبدو واضحًا أن الانشغال بمرحلة قادمة فيها "تيار معارض" مدعوم من روسيا وطيف حلفاء، يعني أن الأمور سائرة نحو ترتيبات جديدة.
اقرأ/ي أيضًا: اقتلوا الطاغية الذي نحيا بفضله!
الترتيبات منذ بدء الأزمة السورية مشكوك بها من مدخل الواقع الضاغط، فبخلاف عدم إمكانية الوصول لاتفاقات في سياق تفاوضي طوال السنوات الفائتة، كان هنالك الشك الذي تحول يقينًا من عدم قدرة الاتفاقات السياسية على إلزام الواقع المشتعل والفاعلين الحقيقيين فيه.
السمة الأهم للتدخلات العسكرية في سوريا، كان الوصول إلى مساحات نفوذ محددة، تمامًا كما التدخل الأمريكي ضد داعش في مواجهتها مع الأكراد في العراق. هنالك حدود يتوافق عليها الفاعلون الدوليون، منها معلن ومنها غائم، إلا أنها هي محدد التدخلات الفاعلة والمؤثرة. والانسحاب الروسي يأتي بعد تأمين مساحة النفوذ المحددة لحلفائها.
القادم على ما يبدو هو خطوة ثانية لإدخال سوريا في حقبة ما بعد الحرب بتوافق دولي، وعلى رحيل متدرج أو سريع للأسد مع الحفاظ على البنية أو المنظومة التي ظلت تدير مناطق سيطرته، وكذلك العمق الطائفي الذي دافع عنه وقاتل به، ثم فترة انتقالية.
المهم اليوم هو أن كل الأثمان الباهظة طوال السنوات الماضية، لا تضمن بديلًا ديمقراطيًا بنفس الثورة الأول، بل بديلًا من خلفه ثقل روسي ومحور الثورة المضادة. يحقق المطلب الذي جعله السجال السياسي وحيدًا، ألا وهو رحيل الأسد، ويقدم تحولًا أو انتقالًا في الحكم يبدو إنجازًا في سبيل حل الأزمة.
ما المطلوب لتنفيذ هذا التوجه؟ توافق دولي يبدو ممكنًا في خريف أوباما الرئاسي، وتحديد روسيا لخطوطها وتأمين مصالحها. ومجرد منطقة خضراء داخل سوريا.
نعم، تمامًا كالعراق، إطلاق عملية حكم انتقالي أو انتقال في الحكم ليست بحاجة إلا لمنطقة خضراء مؤمنة، مع مباني وزارات وبرلمان وغيرها. أما مناطق كل نفوذ عسكري فستظل محددة وثابتة، تتخللها كل عدة أشهر أو سنوات معارك ضد خصم محدد، "إرهابي" متفق عليه.
خريطة النفوذ العسكري اليوم يمكن أن تظل هكذا دون إعاقة هذا التحول الذي سيتم إخراجه على أنه خروج من حرب ودخول في حقبة جديدة.
تمامًا كالعراق، إطلاق عملية حكم انتقالي أو انتقال في الحكم ليست بحاجة إلا لمنطقة خضراء مؤمنة
قد تنفجر سيارات ويتصاعد خطف وقتل طائفي، ولكن لن يؤثر على الانتخابات والحياة السياسية وسير الحكم والحكومة والدبلوماسية لسوريا الجديدة، مثل العراق منذ سنوات طوال. وسيظل الخيار الفيدرالي مطروحا، مع أن الواقع أكثر من فيدرالية وأقل من دولة موحّدة.
اقرأ/ي أيضًا: الانسحاب الروسي.. نهاية جولة
رئيس من طائفة أو قومية، ونائب من أخرى ونائب ثان من أخرى، ورئيس وزارء من محور آخر يتلبس لبوسًا طائفيًا، ورئيس برلمان من فئة أخرى، وهكذا. تتنازل الطائفة للمحور، ويتنازل المحور للطائفية، هكذا يمكن أن نرى مالكي آخر، حليف لأمريكا وإيران في آن واحد. هذا ما تدركه، وتريده، الدول الداعمة لتيار الجربا مثلًا.
يمتد الحزام المشتعل من العراق فسوريا فلبنان، إلا من تخوم آمنة فيها القواعد العسكرية الرئيسة لدول التوافق الدولي، وتلعب دول الإقليم من خلال وكلاء لعبة السياسة والمواجهات العسكرية المتقطعة في أحيان متباعدة، ويدوم الأمر لسنوات.
سوريا، عراق ثان وحرفيّ، ربما.
اقرأ/ي أيضًا: