30-يوليو-2020

كلما اقترب فصل الصيف يبدأ كرنفال الوعود الكاذبة من قبل المسؤولين (فيسبوك)

السلطة تراقب الشعب، والشعب يراقب السلطة، واسرائيل تراقب الجميع.

الدولة لا تسأل المواطن عما يفعله من وراء ظهرها، إذا لم يسألها ماذا تفعل من وراء ظهره. محمد الماغوط

لو أحصينا مقدار الوعود التي تطلقها عادةً السلطة السياسية في بلداننا العربية، لدخلت هذه السلطة، وبجدارة، في موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية. حتى أن الوعود السياسية أضحت مادّة محببة للضحك والتندر في حياة الناس اليومية. وحينما يطلق تنظيمًا حزبيًا، أو حكومة، أو أحد السياسيين، وتصدّق  بوعود السياسي العربي، فهذا من قبيل أنك تؤمن بطيران الفيل، أو أنك شاهدت ديناصورًا يمشي في أحد الشوارع. الفساد المالي، وهيمنة القطاع المصرفي واقتطاع جزء من دخول المواطنين لتعويض الفوائد المصرفية الهائلة التي تفرزها القروض الخارجية، والتقسيم الطائفي للحصص السيادية، هو نفسه في لبنان منذ اتفاق الطائف "الشرعي"، ولم يتغير منه شيئًا. وفقر المواطن السوري، واستبداد نظامه، هو المعادلة التي لم يطرأ عليها أي تغيير يُذكر، فالمجال هنا مفتوح للشعارات أكثر من أي شيء آخر، غير أن حصر الحكم بيد طائفة معينة هو الأمر الوحيد الذي يحظى "بشرعية" أبدية. وفي العراق، لا زالت المعادلة كما هي: تضخيم السلطة على حساب الدولة، وتاريخ من الحديد والنار. والثابت في كل هذه الظواهر التي ذكرناها هو الوعود! الوعود بحياة أفضل، يعمّها الرخاء والاستقرار. وبالطبع أوردت هذه النماذج على سبيل التمثيل وليس الحصر. كما أن ذكرالوعود دون غيرها لا يعني هي العلامة الوحيدة على تفاهة النظام السياسي العربي وضحالته، لكن أوردنا الجزء الأكثر "مصداقية" ، أو قل السمة الأكثر "شرعية" في سلوك السياسي العربي.

الشرعية الوحيدة التي يمكن أن نفهمها للسلطة في العراق هي شرعية الولاء للخارج

ما الفائدة المترتبة على تعداد الوعود التي أطلقتها الأنظمة العربية، فنحن آخر ما نفكر فيه هو تسميم أذهاننا من جديد وإفساد أمزجتنا. بإمكانك أن تسأل أي عطّار أو بقَال أو سائق أجرة، سيجيبك بشكل حاسم وسيختزل لك تاريخنا السياسي بعبارة أو عبارتين، إذ تحوّلت أجيالنا إلى مخازن ممتلئة للذاكرة السياسية المؤلمة. فلذلك قد يكون من الأفضل أن ننشغل بالسؤال التالي: ما الذي يجعل هذه الأنظمة المتهالكة مطمئنة ومستمرة في التنكيل بمواطنيها؟ ما الذي يجعل الحكومة العراقية، على سبيل المثال، لا تخشى عواقب التاريخ، ولا تقيم وزنًا للعراقيين وهم يتعايشون مع درجات حرارة تصل لنصف الغليان في جحيم الصيف بلا كهرباء مستمرة، وبالاعتماد على مولّدات كهربائية محلية، لا توفر سوى تشغيل أجهزة تبريد مائية، تساهم بدورها في رفع درجات الرطوبة؟ منذ سبعة عشر عامًا، وكلما اقترب فصل الصيف، يبدأ كرنفال الوعود الكاذبة والمنافقة من قبل المسؤولين، وفي بدايات العاشر من تشرين الأول/أكتوبر تخرس هذه الأصوات ولا نسمع لها أحم ولا دستور. وفي المقابل، وفي غمرة انتعاشهم في النقاهة التي توفرها لهم أيام الشتاء، يتناسى العراقيون كابوس الأشهر الصيفية، لكن يبقى هاجس الصيف القادم يطاردهم في أحلامهم.

اقرأ/ي أيضًا: جردة حساب بعد 4 اختبارات "فاشلة".. هل ينجو الكاظمي من مصير عبدالمهدي؟

من الذي طمأن صدام حسين طيلة أكثر من ثلاثة عقود وهو يسوق العراقيين بالحديد والدم؟ منذ لحظة "قاعة الخلد" المرعبة، دخل العراق على أثرها، في متاهة شديدة التعقيد، كلّفتنا حربين عبثيتين، وحصار لا أخلاقي، ودولة بوليس سري، وقمع لكل المعارضين بلا رحمة، ثم خرج العراق، على أثر كل هذه التداعيات، كسير الجناحين تتلاعب فيه دول الجوار وأتباعها، وتتحكم فيه القوى العظمى وجيوشها، ويتراجع عن دوره الريادي في المنطقة، ولا يحقق أدنى درجات الاستقرار السياسي والاقتصادي كبلد يعوم على بحيرة من النفط.

وبالعودة إلى الحكومة الحالية، ما الذي يجعلها تقتل أكثر من 700 شاب وأكثر من عشرين ألفًا بين معاق وجريح، دون أن تقيم وزنًا لأي مساءلة قانونية، أو تضع في الاعتبار الرأي العام العالمي، ولا تفكّر بمحاكمة في المستقبل أثر سلوكها العدواني تجاه الشعب؟ بعبارة أخرى، ما الأسباب الكامنة خلف هذا البرود القاتل الذي تبديه سلطة الخضراء خلال 17 عامًا دون أن تضع أدنى اعتبار لأي كرامة بشرية؟ لا أظن الجواب يأتي سريعًا وجاهزًا، لأنه يتطلّب تحليلًا للطبيعة النفسية والعقلية للقائمين على الشأن السياسي من جهة، وتحليل للطبيعة النفسية للشعب العراقي لكي نحظى بمتعة الاكتشاف وهي توّضح لنا القابلية الهائلة لهذا الشعب وقدرته الغريبة على المطاولة. فنحن لم نتعرّض لمثل هذه التحليلات، لأنّنا مشغولون بالتهكم والشتم والتنديد بهذا الشعب المحتار. لكن تحليل الطبيعة النفسية والعقلية يبقى موضوعًا عامًا، في حين أن السؤال الذي يشكّل نقطة مرجعية ومدخلًا مهمًا لفهم ما يحدث هو سؤال الشرعية السياسية: إلى أي مدى تحظى هذه السلطة بشرعية سياسية تتيح لها إدارة مؤسسات الدولة، وأي نمط من أنماط الشرعية تتمتع به هذه السلطة الأمر الذي يجعلها مطمئنة لهذه الدرجة؟

إذا ما اعتبرنا الأنماط الثلاثة لشرعية السلطة، التقليدية، الكاريزمية، والعقلانية، مادة تحليل رئيسية لفهم السلطة، فسنصاب بخيبة أمل كبيرة بعد اكتشاف أن السلطة الحالية في العراق يصعب تحليلها طبقًا لهذه الأنماط الثلاثة؛ فلم تحسم شرعيتها بسلطة تقليدية (كالنسب والحسب والوراثة وغيرها)، ولا السلطة الكاريزمية (القريبة من السلطة التقليدية، والتي تستمد شرعيتها من قوتها الشخصية ومؤهلاتها المميزة)، أو السلطة العقلانية (التي تستمد قوتها من شرعية القانون). فنتيجة التحليل ربما ستقودنا إلى حقيقة أبعد من هذه الأنماط الثلاثة، ولا علاقة جوهرية تجمع هؤلاء الساسة بهذه الأنماط إلّا من حيث الشعارات والأشكال التعبيرية الفارغة من مضمونها، والتي تنفع كمنطق تبريري لسلوك السلطة السياسي، أما في العمق، فلا شرعية حقيقية يمكن أن نفهمها طبقًا لهذا التقسيم الثلاثي الفيبري (نسبة إلى ماكس فيبر).

إن الشرعية الوحيدة التي يمكن أن نفهمها لهذه السلطة هي شرعية الولاء للخارج! إن الدعم الخارجي الذي تتمتع به هذه السلطة، سواء كانت كيانات تنظيمية، أم أشخاص، تحظى بالدعم والتغطية اللازمة من قبل القوى الدولية والإقليمية. لقد كان صدام حسين مسكوتًا عنه من قبل القوى الدولية، لأنه كان يخوض حربًا دامية ضد إيران لصالح الولايات المتحدة ودول الخليج، وبرعاية طائفية عربية ضد "المد الشيعي" (وليس الصهيوني، فهذا خطر مؤجَّل!) ما أكسب صدام عدّة جولات دموية، ومنها الإبادة الجماعية التي أقدم عليها في حلبجة؛ فالسلاح الكيميائي الذي صهر أجساد الأطفال والشيوخ كان "شرعيًا" في حينها، ومسح القرى وتجريفها فعل شرعي كذلك. ظل صدام حسين "أنتيكة شرعية" ومهمة في المنطقة تكتسب أهميتها وشرعيتها من مقدار الاستنزاف الذي سببه هذا الدكتاتور. ولا تشذ هذه السلطة الحالية بالطبع عن شرعية الخارج بل هي أكثر وضوحًا ومباشرًة في ذلك، لا بل تجاهر بهذه الشرعية بصيغ تبريرية عقائدية فيما يخص دول الجوار مثلًا؛ فالنخب الشيعية تكتسب شرعيتها من إيران، فلا يحق لهم إقامة علاقات طبيعية بين البلدين قائمة على المنفعة الاقتصادية المتبادلة، بل على إعطاء الأولوية "للجارة" في كل شيء، سياسيًا، واقتصاديًا، لأنها أحد مصادر الشرعية!

 والنخب السنية، رغم عدم وضوح ولائهم المباشر للسعودية وتركيا، ورغم مواقفهم الذليلة من هاتين الدولتين، إلّا أنهم ليسوا معنيين، نقديًا، تجاه السياسات التركية في شمال العراق، ومواقفهم الاستغلالية والتلاعب بحصة العراق المائية. وليسوا معنيين كذلك، بالدعم السعودي للإرهاب وإرسال إرهابيين سعوديين على خلفيات طائفية للقتال في العراق. النخب السنية ليست معنية بشيء طالما لم تسعفها الأحداث للانفراد في السلطة، وطالما لا تحظى بشرعية حقيقة من الداخل. إنها تتمثّل الوطن على شكل سلطة، وما عدا ذلك، فهي ليست معنية بالعراق ولا يعني لها شيئًا، وإذا قامت هذه النخب، ومطبّليها، بتذكيرنا "بأيام الخير" البعثية، فهم يعنون أيام انفرادهم في شرعية السلطة المزيفة. فمن هنا يقول لسان حالهم في هذه اللحظة "ماكو سلطة، ماكو وطن"!

حتى الشرعية الطائفية يصعب علينا اتخاذها كنموذج وحيد يفسر واقعنا السياسي؛ فأينما نتجه ستواجهنا شرعية الخارج باعتبارها نموذج تفسيري يمكنه أن يوضّح السلطة من جهتها الشرعية. ولا نريد تكرار ما ذكرناه في مقالة سابقة عن الطائفية السياسية.

 على أي حال، أفهم جيدًا أن هؤلاء جاءوا بانتخابات، لكن التفكير بالانتخابات كنقطة يمكنها زحزحة الأشكال الذي تبنيناه، يبدو كما لو أنه إهانة مقصودة للعقل والعقلاء! فكلنا نعلم الكيفية التي جرت فيها عملية الانتخابات، لدرجة أن نحكم باستحالة الاعتماد عليها كمقدمة شرعية للسلطة. لذلك من عاصر الكرنفالات الانتخابية وما صاحبها من مغازلات طائفية للعقل الجمعي، ونسب التزوير، وعزوف قطاعات اجتماعية واسعة، في الآونة الأخيرة، عن التفريط بأصواتها لهذه الخدعة "الديمقراطية" الكبيرة، قد ينتابه شيء من اليقين لما نذهب إليه، وهو شرعية سلطة الولاءات التي تسمد قوتها من خارج الحدود.

النخب الشيعية تكتسب شرعيتها من إيران، ولا يحق لهم إقامة علاقات طبيعية بين البلدين قائمة على المنفعة الاقتصادية المتبادلة، بل على إعطاء الأولوية "للجارة" في كل شيء

ثمة علاقة ناظمة بين السلطة المحلية والقوى الخارجية، تشتبك أواصرها وتتوحد في نقطة مرجعية وحاسمة، وهي الولاء؛ أن تعلن ولاءك بلا قيد أو شرط، لتكتسب أفعالك شرعية سياسية، وعلى اثرها ستُمنح هامش الحرية، حتى لو قمت بإبادة مدينة بأكملها، طالما لم يتعرض ولاءك للضعف والتردد. فمثلًا، لا يهم الجمهورية الإسلامية في إيران أن تصطنع لها موالين خارج إطار أيديولوجيتها، ما يهم هنا هو التخادم، أو بتعبير أدق الخدمة من طرف واحد! وعندئذٍ فأنت شرعي بالوراثة. إن الشرعية الوحيدة التي تستند عليها سلطة الخضراء هي شرعية الولاء للخارج، وإلا ستتم الإطاحة بها واعتبارها "دولة مارقة"، وتجري بالضد من حقوق الإنسان!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الطائفية السياسية: إعادة نظر

خطاب السلطة.. الحياة بوصفها كابوسًا