خلال تاريخ الإنسانية الممتد لآلاف السنين، كان المؤثر الأكبر في النمو السكاني والحركة السكانية هو العامل الإيكولوجي. بل وأن المؤثر الإيكولوجي كان العامل الأبرز حتى في نشوء الحضارات وكذلك الكثير من الممارسات الثقافية. يقدم عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي مارفن هاريس في كتابه "مقدسات ومحرمات وحروب ـ ألغاز الثقافة" بترجمة أحمد م. أحمد، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، شرحًا مفصلًا لتأثير العوامل الإيكولوجية في نشوء الثقافات، بل وحتى المعتقدات الدينية، فيقول إنّ من الأسباب الأساسية لتقديس الهندوس للأبقار له علاقة بطبيعة حياة الهندي، فالهندوس يستخدمون الثيران لحراثة الأرض بدل الماكينات، وروث البقر كسماد، وكوقود أيضًا، الأمر الذي أدى إلى أن نجاة هذا الحيوان وتواجده بأعداد هائلة، مرتبط بنجاة الإنسان هناك. رغم أني لا أتفق بشكل قاطع مع مذهب مارفين هاريس إلا أنّ ما يقدمه كان جديرًا بالملاحظة.
عانى سكان أهوار العراق من طول مواسم الجفاف وشح المياه الأمر الذي يؤثر في أسلوب حياتهم بشكل جذري
في مكانٍ آخر من العالم وبمثال طبيعي أكثر وضوحًا، يمكن ملاحظة الاختلاف بين التفسير الديني لفيضان الفرات في بلاد الرافدين وارتباطه بغضب الآلهة، كون فيضان الفرات كان ذا طابعٍ تدميري ولا يمكن التنبؤ به في تلك الحقبة، فارتبط دائمًا بتفسيرات ذات طابع لعائني، وبين التفسير المصري لفيضان النيل الذي يحمل الطمي والماء الذي يروي الزروع ويزيد من خصوبة الأرض، والاحتفال به في يوم وفاء النيل في يوم الخامس عشر من آب/أغسطس.
اقرأ/ي أيضًا: بالصور: كيف كانت الحياة في أهوار الجنوب قبل أكثر من نصف قرن؟
خلال تاريخ العراق الحديث والمعاصر، لم تؤثر التغيرات الطبيعية الإيكولوجية، على حياة الناس كما تفعل اليوم، وبشكل متسارع خطير في العشر سنوات الماضية. عانى سكان أهوار العراق من طول مواسم الجفاف وشح المياه، الأمر الذي يؤثر في أسلوب حياتهم بشكل جذري، فسكان هذه الأهوار يمارسون تربية الجاموس وصيد الأسماك كمصدر رئيسي لكسب قوتهم، وهذان المصدران يعتمدان على مياه الأهوار لاستدامتهما. مع شح المياه الذي يضرب العراق منذ عقود، أما بشكل متعمد أثناء عمليات تجفيف الأهوار التي مارسها نظام البعث، أو بعدها نتيجة السياسة المائية السيئة، ونتيجة سرقة حصة العراق المائية من قبل دول المنبع، فسكان الأهوار يعانون تهديدًا وجوديًا وليس أمامهم إلا الهجرة.
خيار الهجرة الذي يواجهه سكان الأهوار يعني أمرين مهمين، أولهما: سكان الأهوار يمتهنون المهن التي ذكرناها وهي الصيد ورعي الجاموس، وهاتان المهنتان لا وجود حقيقي لهما في المدن القريبة من الأهوار، بالشكل الذي يعرفه سكانها، وبذلك سيتحول سكان الأهوار إلى بطالة ذات مهارات غير مطلوبة، وبالتالي إلى مزيد من النبذ الاجتماعي، وتحميلهم جميع مآلات الأحداث التي لم يكن لهم دورٌ فيها أو رغبة في صنعها. الأمر الآخر: إن يحاول سكان الأهوار نقل خبراتهم وأسلوب حياتهم وثقافتهم إلى مناطق هجرتهم الجديدة، وسيؤدي هذا الأمر لنتيجة مشابهة للخيار الأول، فالمدن والقرى المحيطة لن تتقبل تغيرات كبيرة في نسيجها الثقافي.
التغيرات الثقافية المصاحبة للهجرة القسرية، عواقبها مدمرة، اجتماعيًا واقتصاديًا، فعلى المستوى الاجتماعي سيتم تدمير البنية الاجتماعية لسكان الأهوار، وستضعهم الهجرة في أسفل التراتبية الاجتماعية للنسيج الاجتماعي الجديد، النسيج الجديد الذي لن يكون مرحبًّا بالضرورة بجماعة لا تتلاءم مع طريقته في الحياة، غير متعلمة ولا تتمتع بمهارات ضرورية لتنمية موارد المجتمع المستضيف، أما اقتصاديًا فسيفقد العراق الأهوار وسكانها المنتجين المَهَرَة، ويثقل حمله بجماعة غير منتجة، تحتاج لمن يعينها اقتصاديًا لتواجه نمط حياتها الجديد.
من الظلم أن يدفع سكان الأهوار العراقية فاتورة الإقصاء الثقافي والسياسي، والإهمال على مستوى التعليم والخدمات لعقود، ثم عليهم أن يواجهوا تهديد بقاءهم لوحدهم. وعلينا ألا ننسى أن هذا الخطر يحدث بالفعل، أنا لا أتكلم عن شيء قد يحدث في المستقبل، بل هناك قرى وقصبات هجرها أهلها بالكامل، بالذات في منطقة الأهوار الوسطة في محافظة ذي قار، حيث نهر الفرات الأكثر تأثرًا بالجفاف من شقيقه دجلة. على المسؤولين العراقيين إدراك أننا لا نستطيع تحمل التكلفة الهائلة التي يجب أن ندفعها نتيجة جفاف الأهوار، وأن العمل الذي يجب أن ينجز الآن وبشكل عاجل لعكس هذه الظاهرة، هو الحل الأنسب، وأن نتجنب ولو لمرة واحدة في تأريخنا سياسة تقليل الخسائر، ونتبع سياسة الوقاية.
اقرأ/ي أيضًا: