قبل دخول التيار الصدري في الانتخابات الأخيرة، كتب أصدقائي الكثير من "الأمنيات"، وهي أمنيات كانوا يتطلعون من خلالها إلى حياة أفضل، ونخبة سياسية تمثل جمهورًا شعبيًا واسعًا يأخذ على عاتقه دور الرقابة والضغط على السلطة الفاسدة. وكتبنا عشرات المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي نتمنى فيها أن لا يدخل الذين مثّلوا الجمهور الصدري كشريك في هذه السلطة الفاسدة.
كانت خلاصة الأمنيات، هي أن يسلك الصدريون درب المعارضة، وأن لا يتورطوا بإنتاج نخبة سياسية فاسدة يبتلعها الطمع والجشع والتكالب على المتاع الرخيص وحب السلطة
وبدلًا من الدخول مع هذه الزمرة ، يتجهون صوب الشعب ويستأنفون الحوار المفقود بينهم وبين باقي فئات "المجتمع" العراقي، وأن يكسبوا ودهم من جديد وتوسيع دائرة التضامن في ظل استقطابات حادة، وانعدام ثقة بين مختلف العراقيين وخوف وقلق من الصدريين بكيفية وأخرى. كانت خلاصة أمنياتنا، هي أن يسلك الصدريون درب المعارضة، وأن لا يتورطوا بإنتاج نخبة سياسية فاسدة يبتلعها الطمع والجشع والتكالب على المتاع الرخيص وحب السلطة.
اقرأ/ي أيضًا: كشف حساب مع سائرون.. أربع صدمات بعد عام
إذ لو كان الصدريون اليوم في صفوف المعارضة، فللمرء أن يتخيل حجم التضامن الشعبي الواسع الذي يحظى به الصدريون، ولنا أن تخيل هل سيتجرأ الملثمون على قتل شبابنا بهذه الطريقة الرخيصة، إذ تعاملوا معهم كما لو أنهم إرهابيون! ولهذا "الرهان" ما يبرره، ذلك إن المتتبع لسير الأحداث سيرى أن المشتركات تتفوق بكثير على غيرها بين صفوف المحرومين، بهذا المعنى ستكون حصيلة نقاطنا الإيجابية تتفق مع أغلبية هذا الشعب المغلوب على أمره.
كنّا نقارن بين الحرب العالمية، وبين الاستياء الذي تبديه شرائح المجتمع العراقي فيما بينها، وخصوصًا بين التيار وخصومه، غير إن الحرب العالمية التي طال أمدها ثلاثة عقود، وجدوا لها منفذًا عن طريق الصلح، أما نحن فلا نزال في حربنا الضروس، علمًا أن خصومتنا ليست أعنف ولا أعقد من الحرب العالمية. كل هذا دفع أصدقائي الكتّاب، وكنت معهم، باعتبارنا مهتمين بالصالح العام، أن نبحث عن حلول، وكنّا نتمنى تشكيل جبهة شعبية تضم مختلف الفئات العراقية ومن ضمنهم التيار الصدري وجمهوره الواسع، غير أن الأمنيات أصغر وأضعف بكثير من الواقع ومغرياته!
شباب تشرين
استقبل الكثير من الناشطين بيان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر بالتذمر والسخط والرفض، ولم ينطلق هذا الرفض من باب المناكدة والعداوة المسبقة (كما تعكس بعض الجماعات رغباتها الشخصية)؛ فهؤلاء الشباب لا تجمعهم مصالح فئوية، ولا طمع لهم في منصب أو جاه. بل على العكس من ذلك، فهم أحوج إلى من يحيمهم من بطش السلطة الذي لا يرحم. ولو صدر هذا التذمر من بعض الجماعات التي كانت تطلق على نفسها"علمانية" أو "ليبرالية"، لكان الأمر معلومًا وواضحًا في فهم دوافعهم وأمزجتهم التي تصاب بالنفور من الجماعات الدينية ولا تثق بالعمل السياسي لهذه الجماعات، لكن حينما يخرج من شباب انتفاضة تشرين، وهم في مقتبل العمر، فلهذا الأمر ألف علامة استفهام!
إن أطرف ما يمكن أن نتلمّسه في شباب انتفاضة تشرين، هو هذا المزيج الذي مثل فقراء المناطق الشعبية، والتي جمعت الصدريين وغيرهم، هؤلاء الذين لم ينبت لحمهم على السحت والحرام الذي تورطت به النخب السياسية؛ فهم ناقمون على هذه النخب التي غدرت بهم ولم تحقق لهم شيئًا يذكر. فجاءت صرخة شباب الانتفاضة كردة فعل على هذه الخيانة الواضحة في وضح النهار، وجمعت شتات نفسها، وخرجت بلا قائد يوجه بوصلتها، وبلا "نخبة" غارقة في"الأستذة" ومتورمة بنرجسيتها الفارغة. إنها جماعة لا تندرج في سياق الجماعات الممسوكة، فمن هنا تبدي رفضها لأي فصيل سياسي يقتحم عالمها الجريء والجسور و المتخم بالألم والإحباط. بكلمة واحدة: شباب مستعدون للتصدي للرصاص بصدور عارية، لكنهم يرفضون مشاركة الصدريين. فإن لم يكن هذا الأمر صحيحًا فهم حتى الآن، على الأقل، لم يستغيثوا ولم يطلبوا حماية أحد، فيا للعجب!
الجماهير الصدرية
بالقياسات الكمية يُعد جمهور التيار الصدري هو أوسع قاعدة جماهيرية على الإطلاق، وتمثل فيه الفئات الشابة العدد الأكبر بين هذه الجموع المليونية، وربما يحسد السياسيون السيد مقتدى الصدر على هذه النعمة. والكثير منّا يفكر، ماذا لو كانت هذه القاعدة الشعبية الواسعة في بلد آخر؟
عمومًا، لا وقت للأمنيات، لقد وصلت بعض الجماهير الصدرية إلى طريق مسدود؛ فالكثير من الجيل الأول نالهم التشرذم والغرق في المصالح الشخصية والولاءات الخارجية التي حولت الكثير منهم إلى "ميليشيات وقحة" بحسب التعبير الشهير للسيد مقتدى الصدر، والذي أضحى عنوانًا للمنحرفين. والصدر ليس في أحسن حالاته على الإطلاق، وأحسبه في كثير من الأحيان، ورغم سعة جمهوره وطاعته، يشعر بأنه يقف على أرض هشّة، والسبب يعود إلى طبيعة "النخب السياسية" التي يكلفها للمشاركة في الحكومة، فهي سريعة الانزلاق وشديدة التعطش لماء السلطة الزلال!. ولا ندري ماذا فعل سائرون تجاه انتفاضة تشرين: هل كانوا متضامنين مع السلطة، هل أبدوا مقاومة شرسة في البرلمان للقبض على الجناة الذي تسببوا بجرح آلاف الشباب وقتل العشرات منهم؟ لا نعرف شيئًا سوى انسحاب "تكتيكي" من البرلمان، يعبر عن تضامن نرجسي وخجول، عوّدتنا عليه الكثير من النخب السياسية لإسقاط الفرض لا أكثر ولا أقل. وهذا الانسحاب هو بمثابة عطلة بمرتب كامل!
ولا ندري ماذا فعل سائرون تجاه انتفاضة تشرين: هل كانوا متضامنين مع السلطة، هل أبدوا مقاومة شرسة في البرلمان للقبض على الجناة الذي تسببوا بجرح آلاف الشباب وقتل العشرات منهم؟
لقد تعلم السيد مقتدى الصدر من التجربة، أن استفزاز نخبته السياسية يعني دفعهم بأحضان الآخرين، والآخرون هم سبب كل فجائعنا التي تحصل، فقد وجدوا أرضًا خصبة وسط قلوبنا وعقولنا. المهم في الأمر، فلم يتبقَ للسيد مقتدى الصدر سوى الأجيال الشابّة التي لم تتبرعم وتنشأ على الفساد والمساومات والابتزازات. غير أن هذه الأجيال صعبة المراس، وهي أقرب للتمرد منها للطاعة، وبتقديري الشخصي، إن الصدر سيكون مخيرًا في المستقبل القريب: بين التقرب من هذه الأجيال الناشئة بعيدًا عن المشاركة في السلطة والانخراط في صفوف المعارضة، وبين الخسارة الكبيرة التي سيتعرض لها من خلال انحسار الجماهير التي تميل إلى الطاعة. وإلا سوف تكرر سائرون وغيرها نسختها الأكثر فسادًا في المستقبل القادم. على أننا لا بد أن نعترف، إن الفساد يمثل سياقًا سياسيًا مضطربًا ولا يتعلق بفئة دون أخرى.
الحلم مرة أخرى
بالرجوع مرة أخرى عن حالة التذمر تجاه بيان السيد مقتدى الصدر، وأعتقد إن السرد أعلاه قد يعطي مبررًا كافيًا ويكشف لنا عن السبب التي تنفّر الشباب من هذه الدعوات. خصوصًا وأن لهذا النفور امتدادات طالت الأوساط الصدرية نفسها؛ فالصدريون ليسوا عائلة مغلقة (وإن كان البعض يحاول جعلها بهذا الاتجاه)، فأغلب جماهيره من الشباب كما بيّنا. لكن علينا أن نوضح بصدد هذا التذمر؛ فسواء رفض شباب انتفاضة تشرين أو غيرهم مشاركة الصدريين، فالصدريون رهن إشارة قائدهم، وهم بلا شك قوة لا يستهان بها.
اقرأ/ي أيضًا: الصدر يخاطب "الثوّار" قبل تظاهرات 25: مرعوبون منكم وسلّموا أنفسهم للخارج!
لكن هل يصح أن يكون الثراء والفساد لسائرون، والجوع والموت والطاعة لجمهور الفقراء؟! لذا، سأستعيد أمنيتي مرة أخرى، وهي أن ينظر الصدريون مرة أخرى إلى ممثليهم في البرلمان ويحاسبوهم ماذا يفعلون، ولماذا يبقى هذا الجمهور فقيرًا ومهمّشًا ومواطنًا من الدرجة الثانية؟ متى نستثمر قوتنا ونكون صفًا واحدًا في سلك المعارضة، ونسترد حقوقنا التي أثرت الغرباء، وفي الجهة الثانية يموت أبناء هذا الوطن كما لو أنهم أعداء وغرباء في وطنهم. ألا تُعد هذه الأسباب مجتمعة مقدمة منطقية وواقعية لإعادة النظر بهذا الجمهور الواسع، وبث الحياة فيه من جديد عبر تثقيفه ليكون جمهورًا معارضًا، بدلًا من تحويله إلى أداة تجارية تضارب بها النخب السياسية، أم هو ذات الحلم الذي راودني قبل الانتخابات الأخيرة؟!
اقرأ/ي أيضًا: