03-فبراير-2022

هرب ناشطون من محافظاتهم تحت تهديد الميليشيات المسلحة (تعبيرية / Getty)

عندما بدأت منظمة "إنهاء الإفلات من العقاب" في العراق بتوثيق قصص المبعدين قسرًا بعد انتفاضة تشرين والأسباب التي ألقت بهم خارج حدود كل ما يعرفونه عن أنفسهم، كنّا نعتقد بأننا إزاء مجموعة من الهاربين الذين ضاقت عليهم مساحة الحرية وحسب، بعضهم تعرض لمحاولات اغتيال، نعم، وقلة بينهم جرى اختطافهم و(تأديبهم) في دهاليز مرعبة تديرها وحوش موتورة، وكتب النجاة لهم بعد تدخل جهات من هنا وهناك. 

تعرضت ناشطة للاغتصاب بطريقة هستيرية كما مورست الإعدام الميداني على ناشط آخر من قبل جماعات مسلحة

أجل، كنّا نعتقد بأننا استوعبنا صدمة هذه القصص المخيفة، حفظنا الأسماء وميّزنا الصحفيين عن الناشطين وحددنا جغرافيا الانتشار القسري من السليمانية إلى أربيل مرورًا بإسطنبول ووصولًا إلى بيروت.

اقرأ/ي أيضًا: من بغداد إلى البيت الأبيض.. العراقيون يلهبون حملة "إنهاء الإفلات من العقاب"

تبدو المهمة سهلة وعمليات التوثيق والتنظيم والمتابعة ستكون كفيلة بوضع هذا الملف الإنساني المنسي على سكة الحلول بسرعة؛ لكنها التفاصيل، كم يصبح الخوض فيها مرعبًا عندما يقرر الضحايا أن يبوحوا بكل شيء، تلك الانتهاكات التي تعرضوا لها على يد الميليشيات الإرهابية الحاكمة، عملاء النظام السياسي وبلطجية الأحزاب الدينية، فالأمر لا يتعلق هنا بالاعتراض على انتهاك مساحة الحرية وحقوق التظاهر والاعتراض والتعبير عن الرأي وكل هذه الأوهام التي نص عليها الدستور، هم تحدثوا عن انتهاكات مروعة لآدميتهم كبشر قبل أن يتم انتهاك حقوقهم كمواطنين، وعلى نحو يصعب جدًا ترميمه. 

على سبيل المثال: (ر.ب) ناشطة عراقية جرى اختطافها من ساحة التظاهر على يد جماعة تابعة للتيار الصدري، تم تعذيب هذه الفتاة بطريقة وحشية بسبب انتقادها لزعيم التيار مقتدى الصدر، ثم اغتصبت بطريقة هستيرية تسببت لها بإصابات بليغة أدت فيما بعد إلى استئصال ثدييها. 

في دهليز آخر، كان أفراد جهاز الأمن في الحشد الشعبي يسحقون ناشطًا اتهموه بالعمالة للولايات المتحدة الأمريكية، ثم اغتصبوه، ومارسوا عليه لعبة الإعدام الميداني في جولات متكررة للتسلية. يعصبون عينيه ويطلبون منه أن يجثو على ركبتيه وينطق (الشهادة). تستمر الجولة الواحدة لعشر دقائق مدمرة تنهار فيها كل الأجهزة الحيوية للجسم بشكل درامي. 

معظم الضحايا من الشبان والشابات المبعدين قسرًا ممن تعرضوا للانتهاكات بسبب مواقفهم السياسية ومشاركتهم في الاحتجاجات يعانون من صدمات نفسية عميقة تحتاج إلى دعم نفسي مركز وعناية صحية استثنائية، بعضهم فقد الثقة بنفسه وبمحيطه وبات يعاني من اضطرابات نفسية معقدة، كزوجة أحد المبعدين قسرًا، والتي تنتابها نوبات متقطعة من التشنج الهستيري العدواني تجاه أقرب المقربين منها بما فيهم طفلتها التي لم تبلغ الخامسة من عمرها بعد. 

لا يتعلق الأمر بالاعتراض على انتهاك مساحة الحرية وحقوق التظاهر والتعبير عن الرأي بل عن انتهاكات مروعة لآدميتهم كبشر قبل أن يتم انتهاك حقوقهم كمواطنين، وعلى نحو يصعب جدًا ترميمه

ستبدو فكرة إعادة هؤلاء المبعدين إلى بيوتهم ومناطقهم الآن فكرة خيالية مع بقاء العصابات التي انتهكت آدميتهم خارج حدود المحاسبة. لم يقرر هؤلاء الشباب الخروج من العراق بإرادتهم، ولم يكونوا من الأساس مهيّئين لتحمل تبعات ذلك القرار، لقد خرجوا بسبب انتهاكات جسيمة تعرضوا لها، وإن الجهات التي أدارت هذه الانتهاكات ومارستها بوحشية مفرطة ما زالت هي نفس الجهات التي تتحكم بحياة الناس ومصائرهم في العراق، فما هي الضمانات التي يمكن أن يمنحها القاتلُ للضحية مجددًا؟ وكيف يمكن إقناع الضحية بالعودة إلى كنف ذلك القاتل من جديد؟

أحصت منظمة إنهاء الإفلات من العقاب حتى الآن نحو 100 شخص تم إبعادهم تحت تهديد الميليشات المسلحة من محافظاتهم إلى إقليم كردستان وتركيا ولبنان. هناك عشرات غيرهم فضلّوا عدم مشاركة قصصهم لأسباب أمنية أو شخصية، وغيرهم ممن لم تصل اليهم المنظمة حتى الآن.

يعاني هؤلاء من ظروف معيشية صعبة للغاية، أدت إجراءات الحظر بسبب وباء كورونا خلال العامين الماضيين إلى تأخير إجراءات قبولهم ضمن نطاق البعثات والمنظمات الأممية والانسانية، بعضهم استعان بمساعدات متقطعة من عائلته داخل العراق مع الإشارة هنا إلى أن غالبيتهم ينحدرون من عائلات فقيرة أو متوسطة الدخل.

يقول (ح خ) المقيم حاليًا في تركيا إنه كان ناشطًا في ما كان يعرف خلال احتجاجات تشرين بمجموعة (درع التحرير): "كدت أن اقتل بنيران القوات الحكومية مرات عدة"، ويضيف: "أنا فخور جدًا لأني كنت محّتجًا هناك في الساحة".

أحصت منظمة الإفلات من العقاب نحو 100 شخص جرى إبعادهم تحت تهديد الميليشيات المسلحة إلى إقليم كردستان وتركيا ولبنان غالبيتهم من عائلات فقيرة

لا يستطيع (ح خ) أن يؤمّن دخلًا ثابتًا يساعده على دفع حصته في السكن الذي يتشاركه مع آخرين؛ لذا، فهو يضطر أحيانًا للنوم في الحدائق العامة وأنفاق الميترو السريع.

يبتسم هنا مستدركًا: الشتاء بارد جدًا في الخارج!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"إنهاء الإفلات من العقاب".. صوت العراقيين يصدح حول العالم لأول مرة

لحظة "الانفجار".. عواقب عقدين من الإفلات من العقاب