16-مايو-2020

الأمل معقود على الشباب العراقي في التغيير (Getty)

إن "الممثلين المسرحيين" للجمعية الفرنسية.. لم يكن لهم لديهم شيء من التجارب ليلجأوا إليها، وما عندهم فقط هو أفكار ومبادئ لم توضع موضع التجربة عل أرض الواقع لكي ترشدهم وتلهمهم، كما أنها كانت جميعًا قد جرى تصورها وصياغتها وبحثها قبل الثورة.. وشحنوا الكلمات الرومانية القديمة بمعانٍ مستفادة من اللغة والآداب وليس من التجريب والملاحظة.. حنّة آرنت - في الثورة.

أقرب الأشياء تدميرًا للأهداف النبيلة هو وضع التداعيات النفسية مكان التفكير الجاد، لذلك معظمنا يحمل في ذهنه نموذجًا مثاليًا يفكّر من خلاله ويضع معاييره النظرية طبقًا لهذا النموذج. ولا أعني النموذج النظري المتماسك والمبنى على أسس علمية ومفاهيم دقيقة، بل ذلك الإطار الهش الذي لا يحتاج سوى مدونة شخصية أو وسادة ناعمة تلهمنا الأحلام! ومن ثمّ، وبعد السقوط في الحضيض، نلعن الوقائع والأحداث لأنّها لم تكن نصيرًا لنا في في ذروة حماسنا، فهذا الأخير لا يتطلّب منّا جهدًا كبيرًا لإخراجه للعلن، إذ يكفي الصراخ والعويل واستعجال القطاف قبل أوانه، وتلك هي مصيبتنا في العمل السياسي.

لا حركة اجتماعية تسعى للتغير السياسي كُتِبَ لها النجاح من خلال تخوين الآخرين

 فتمثُّل العالم شعريًا يمنحنا دفقًا جماليًا نرى من خلاله الوجود طبقًا للصورة الشعرية، لكن لا يمنحنا صورة جلية للعمل السياسي! بل غاية ما يعطينا إيّاه هو أحلام اليقظة. فهذه الخطوة سهلة ولا تحتاج إلى جهد لأنها لا تستدعي الشروط المادية للتطبيق العملي، وهي عبارة عن ترميمات مٌتَخَيَّلة لجروح الذات وانكساراتها، وتمثّلات مشوّهة للواقع، ننظر إليه من خلال ما نشتهي لا من خلال ما هو كذلك. فنبني ما نرغب في أذهاننا فقط، فنجذّر خصوماتنا ونصعّد من حدّة لهجتنا اعتمادًا على معطيات مُستعجَلَة لتبقى آثارها السلبية طويلة الأمد، ما يصعب علينا لاحقًا تضميد جراحاتنا.

اقرأ/ي أيضًا: قطار الموت البطيء

معظم خصوماتنا تنطلق من هذه الفجوة، ذلك أن الكلام سهل للغاية ويشعرنا بالتميّز الوهمي على الآخرين حتى لو كنّا مفتقرين للشروط الموضوعية. بل سنحارب كل من يذكّرنا بهذه الحقيقة ويغدو خطرًا يهدد وجودنا فنفتعل معه عداوة شخصية. وسنختار الوقت المناسب للانقضاض عليه، وسيكون الوقت المناسب هو وقت التذكير بالعمل الجاد!

 المنطق العملي يخبرنا بهذه الحقيقة الدامغة: أعطني نموذجًا ملموسًا لكي أصدق ما تقول وإلّا سينفضّ من حولك كل من صدقوك في البداية وستكون أنت، وليس غيرك، أحد أسباب الانسداد وفقدان الأمل، بل ستكون السبب الجوهري في تكاسل الآخرين وتراجعهم عن دعمك بعد ما أبدوا، في الأشواط الأولى، حماسًا منقطع النظير، أللهم إلّا إذا كنت مستهينًا بكل هذه الدماء التي سالت، فربما تعوّل على كوكبة جديدة من حشود المغدورين تصعّد من وتيرة الحماس مرّة أخرى، ثمّ يندرجون في خانة النسيان.

بوصفك مهتمًّا بالعمل السياسي وتسعى للتغيير، كيف تثبت أنّك مختلف عن خصومك؟ يظهر أن الجواب معلوم لديك ولا يحتاج إلى حججٍ مركّبة وطرق ملتوية لإثباته. لأنه جواب يقترب كثيرًا من البداهة، وهو كالتالي: حينما تضع قدمك في طاحونة العمل السياسي وتبحر أشرعتك مستعينًا برياح السلطة. في هذه اللحظة بالذات سيتبيّن الغث من السمين، وسيظهر للعلن الفارق الكبير بين "النظرية والتطبيق"؛ بين الشعارات والعمل المخلص الجاد، فلا خطوة أكثر جذريّة وأسرع لكشف المستور من الممارسة السياسية. ولا حاجة للتذكير بهذه البديهية، وهي لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أنك تشبه الفاسدين وتتساوى معهم بالدرجة فهذه مغالطة، ذلك أنّك لم تجرب السلطة بعد! وإنما أعني: لقد كان الآخرون، مثلك، في غاية البراءة قبل السلطة، فتحولوا إلى وحوش ضارية بعد السلطة. ففي هذه اللحظة بالذات تُحسب لك المحاولة "النظرية"، إما الخطوة التالية فهي الممارسة العملية رغم الظروف المعقّدة والرهانات الصعبة والخطيرة.

 فقبل أن تشوّه غيرك لإحراز النصر الشخصي، وتزايد عليهم بالتخوين غير المباشر في حين والهجوم المباشر عليهم في حين آخر. تذكّر مغريات ما بعد السلطة، وتذكّر أيضًا أن الحاضنة الشعبية هي رأسمالك الوحيد؛ إذ لا جهات خارجية تسعفك بالتمويل ولا مؤسسات إعلامية تحتضن فعالياتك إلّا من باب المزايدة والانتهازية. ولا يغيب عليك أن تتذكر، كذلك، هذه الحقيقة الدامغة: لا حركة اجتماعية تسعى للتغير السياسي كُتِبَ لها النجاح من خلال تخوين الآخرين! وأظنها حقيقة بديهية هي الأخرى.

 إن الرهان على الحماس وحده والاستعجال في قطف الثمار لا يجعلك تختلف كثيرًا عن غيوم الخريف فسرعان ما تتلاشى وتأخذها الريح إلى حيث الفراغ. فاعتبر من التجارب السابقة وانظر إلى نهاياتها المؤلمة؛ فقد تناثرت جهودها كحبات الرمل في عرض المحيط، وقد تمّ إغلاق ملفها أسوة بملفات الوجع العراقي السابقة. والحذر كل الحذر من هذا السلوك المشين واللامسؤول في احتقار فئات واسعة في المجتمع، ليس لشيء سوى أنهم يكبرونك في العمر! كما لو أنّك نجحت فيما فشلوا فيه وغيّرت فيما عجزوا عنه، فهل تستبدل استبدادًا بآخر وفي ذات الوقت تطالب بالحرية؟! أنت بهذا قد اخترت الطريق الأسهل لتحطيم كل الآمال المتعلقة بك، ذلك أنّ عنفوانك المفرط كان الخيار الأسهل والبديل الأقرب لإقناع الحاضنة الشعبية! وهذه الأخيرة لا تستجيب على طول الخط ما لم تجد شيئًا مقنعًا في السلوك، فعنفوانك كما الحصان الجامح لا يؤتمنُ على فارسه.

أخذ العبرة خيار العقلاء دومًا، فأنت لا تنقصك  القابلية  لأخذ العبرة، وتذكّر يا أخي لقد افترستنا التجارب الفاشلة ورمتنا عظامًا

إنّك معذور على أي حال، فالتجارب لا تشبه وجبة سريعة ولا نزهة مؤقتة؛ فأخذ العبرة خيار العقلاء دومًا، فأنت لا تنقصك  القابلية  لأخذ العبرة، وتذكّر يا أخي لقد افترستنا التجارب الفاشلة ورمتنا عظامًا، فالأمل معقود فيك، فرحم الله من اعتبر وتأهب.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا نتغيّر؟

القراءة والحرية