منذ انتهاء الاحتجاج في الساحات، والتي أعقبتها مرحلة الهدوء بعد موجات تشرين، بدأ المراقبون بحذر يفرزنون ما حصل قبل تشرين وما بعدها، فيما أفضت هذه الرقابة إلى بروز ظاهرة في غاية الأهمية، وقد أحدثت هزّة في نفوس الكثير، وهي صراع النخبة مع الشعبوية، وهذا كلف ثمنًا باهظًا، إذ أصبحنا اليوم نعد العدّة لترتيب الحسابات، حتى نصل إلى العلة التي أربكت المشهد الاحتجاجي قبالة قوى السلطة التي استنفرت شُعَبها وفِرقها للتصدي لتيار التغيير القادم، محاولين تفنيد وتسقيط كل أطروحة تخرج من هذا التيّار المطالب بالإزاحة التامة لهذه القوى التي تغلغلت بصورة مخيفة ومرعبة في الدولة بكل أركانها ومفاصلها.
أخطر ما يواجه البلد هو انخراط المثقفين الباحثين عن المناصب في تبرير أفعال الثيوقراطية الرثة وإيجاد الخريطة التي من خلالها يديرون النظام السياسي
هناك شيء يجب أن نبينه للقارئ العزيز، بأن العمل السياسي الثابت فيه هو المتغير، وعليه، فإن العملية السياسية التي قامت بعد 2003 قد عصفت بها رياح التقلبات السياسية كثيرًا، ولأنها ليست مؤثرة بالقوى الاجتماعية بوصفها سلطة سياسية، إنما العكس، هو أن تأثر هذه السلطة بمراكز القوى الاجتماعية هو الذي رسم مسيرتها، وبما أن مراكز القوى المهيمنة على المجتمع تنحصر بجهتين؛ المؤسسة الدينية المنقسمة إلى طوائف، والقوى العشائرية، وهاتان القوتان على طرفي نقيض من مفهوم الدولة، فتداعت الدولة وتضخمت سلطة الجماعات على حساب دور الدولة التاريخي.
اقرأ/ي أيضًا: تشرين والمجتمع العراقي: طبيعة التفرقة والتوحد
بعد الاحتلال الأمريكي، وصلت القوى الإسلامية إلى السلطة بتعاون مع المؤسسات الدينية والعشائرية، وهنا كانت هذه الأحزاب تمثل نخبة الثيوقراطيين الذين يتبنون فكرة "الدولة الدينية" داخليًا، ولم يجيبوا عن سؤال الديمقراطية أو لديهم نظرة واضحة للدولة، لكنهم أجبروا على السياق السياسي الحالي، وبالرغم من أنهم كانوا حملة شهادات أكاديمية ومتشرعين أيضًا مثل (حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى والحزب الإسلامي) وغيرهم من الجهات التي تدور بنفس الفلك، لكن ما لاحظناه في فترة وصولهم إلى الحكم التي بدأت من تولي أبراهيم الجعفري السلطة، مرورًا بنوري المالكي وصولًا إلى حيدر العبادي وبعده عادل عبد المهدي، فأن الفشل والتداعي للنظام السياسي والانفلات كان هو السمة الطاغية مع الفساد والإقصاء والتغالب على السلطة، ما يضرب فكرة الديمقراطية بالأصل، وما يجعل الاعتقاد بأن هذه القوى لديها عداء أصيل مع فكرة الدولة.
إن الفشل المتراكم للنظام السياسي، مهّد لكل الحراكات الاحتجاجية التي كانت تقمع لكن بصورة باردة، تبدأ بالاعتقال والضرب بالعصي، ودعاوى كيدية، وتشهير وطرد من الوظيفة، كل هذه الممارسات كانت تجري في عهد "الثيوقراطيين النخبويين"، حتى وصلنا لعام 2018، ووصول القوى التي استعرت من كارل ماركس مصطلح أطلقه على أكثر طبقة متخلفة وهي "البروليتاريا الرثة"، والتي تنطبق على القوى الجديدة بـ"الثيوقراطية الرثة" التي هي ترفع شعار الدولة الدينية ومشروعيتها من الإسلام، لكنها تختلف عن السابقين بأنهم كانوا أقل تنكيلًا وأكثر تنظيمًا في القمع، فكانوا يعتمدون على مؤسسات الدولة في تطبيق مآربهم ضد المعارضين لهم.
إن ما نسميهم بـ"الرثين الجُدد" تعاملوا مع المواطنين بمنطق "البلطجة والعصابات والميليشيات"، لا بمنطق الدولة، ودخولهم للسباق الانتخابي المسيطر على مخرجاته ومدخلاته ليس إلا قناعًا يمارسون السلطة من خلاله، فلاحظنا تراجع النخب وتقدم ما يمثلون الرثاثة في الانتخابات التي لا يمكن أن تعبر عن تصور ديمقراطي، وبهذا حصل هؤلاء على السلطة السياسية والعسكرية، وعندما خرجت الاحتجاجات ووضِعوا في أول مواجهة مع الشعب، لم يكن أمامهم غير الذي يفهمونه، وهو القتل والخطف والتنكيل، حيث سقط أكثر من 20 ألف جريح و800 قتيل، وهي حصيلة تعامل "الثيوقراطية الرثة" مع المعارضة الشعبية التي طالبتهم بإيقاف طمس معالم الدولة والعمل على ترسيخ إذلال المواطن الذي وقع بين سندان فساد النخبة وجرائم "الرثين".
إن أخطر ما يواجه البلد هو انخراط المثقفين الباحثين عن المناصب في تبرير أفعال الثيوقراطية الرثة وإيجاد الخريطة التي من خلالها يديرون النظام السياسي الذي يتضخم على حساب فكرة المؤسسة، فاليوم نشاهد تسابق أغلب الأكاديميين والمثقفين على ترقيع الشقوق الفظيعة التي خلفتها هذه العصابات، وهذا ما يأزم الوضع على الشعب. نحن على أبواب انتخابات جديدة يسمونها هم مبكرة، معتقدين أنهم يلبون مطلبًا من مطالب الشعب الذي قتلوه وسرقوه، وأرى كثيرون يؤمنون بها، متناسين بأنها وضعت على مزاجهم ومصالحهم، وهذا ما يضمن تغولهم، لا سيما أنهم يكتسبون سطوتهم من وجود السلاح الذي يكبر يومًا بعد آخر وليس من العمل السياسي الديمقراطي، ولهذا، فأن الدولة متداعية من حكم نخبة الثيوقراطيين، واليوم تتداعى تحت حكم الثيوقراطية الرثة، ويمكن القول هنا إن المتداعي تداعى أكثر وفق العمل الجديد الذي يمشي بمسار كره الدولة وفكرة الديمقراطية مع سلاح منتشر في كل مكان.
اقرأ/ي أيضًا: