عادة الهزّات العنيفة أن تؤدي إلى مراجعة تسهم في عدم تكرارها. يمكن المصالحة مع عدم الاستفادة من الحرب الأهلية بعد الغزو الأمريكي باعتبار أن رؤوس النظام السياسي كانوا حديثي عهد مع السياسة بشكل عام. لقد أدّى فقدان الدولة وصعود الطوائف تدريجيًا إلى الانهيار الذي تجلّى بسقوط الموصل ومعها مدن أخرى، ولعلّه كان سقوطًا للعراق لو تحدثنا بالتأثيرات القائمة إلى الآن.
حاول العراقيون أن يتداركوا الفشل الذريع لشيعة السلطة في معادلة الحكم التي أنتجها الغزو الأمريكي
ما هي الدروس المستفادة من "سقوط المحافظات" في العراق؟ قد يطرح السؤال من متابع عربي أو غربي، وربما أن أول شيء سيفكر فيه درس الدولة الذي يمكن أن يُعاد النظر فيه بعد هذه النكسة التي جرت فيها أنهار الدماء فضلاً عن فصول المعاناة على مستوى النازحين والمغيبين قسرًا، لكن حين يمتد نظره إلى داخل البلاد سيجد قائمة فيها رايات كثيرة مرفوعة، للطائفة ولما يسمى بـ"المقاومة" ولـ"الزعماء الميليشياويين" حضور أساسي فيها، كما أنه سيجد الدولة في أسفلها أو أنها حاضرة هامشيًا في المشهد لتلافي الحرج أمام العالم.
طريق تحرير المحافظات من الإرهاب فيه ضحايا وجيوش من الأيتام والأرامل، لكنّ الدماء هنا، وهو سياق في تاريخ العراق السياسي، تذهب ليس لإقامة دولة أو أن تفرز تغييرات كبرى على مستوى الحياة، وإنما لتخضع للمتاجرة، والحديث عنها يكون حجةً مقنعةً للبقاء في السلطة أو التحكم بحياة الناس وأنماط عيشهم عمومًا.
في البداية، استجاب الناس لفتوى الجهاد الكفائي في محاولة لتدارك الفشل الذريع الذي أنتجه شيعة السلطة أولًا في التعامل مع معادلة الحكم ما بعد الاحتلال، وخرجوا يحملون أرواحهم على أكتافهم، ثم ذهبت هذه الأرواح في طريق التحرير، لكن ما الذي أفرزته هذه التجربة ـ أي تجربة الحشد الشعبي ـ حتى الآن، وهي تجربة لا يمكن نكران أنها ساهمت مع القوات الأمنية الرسمية بتحرير محافظات العراق من "داعش".
لقد تحوّلت دماء الشباب فيما بعد إلى مقاعد في برلمان 2018، وكان يفترض أن ينتهج العراق طريق البناء بعد الحرب، لكنها وأعني هنا، فترة عادل عبد المهدي، صارت ربيعًا لقوى السلاح ـ فصائل الحشد الشعبي ـ من خلال النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة والمنابع الاقتصادية والدرجات الخاصة بالتقاسم مع "سائرون"، لتنتج احتجاجات غاضبة تكسر هذه المعادلة، ثمّ وضعت بعض فصائل الحشد الشعبي أنفسها في مواجهة مفتوحة ـ تحريضية ومسلّحة ـ مع المتظاهرين في تشرين لتظهر هنا تجليات كسر الإنجاز وتراجع شعبية ما يسمى بـ"محرري العراق".
لم يحسب قادة الفصائل وقادة "الشيعية المسلحة" الوضع العراقي المعقد داخليًا. أعطاهم "إرث النصر" في انتخابات 2018 مع تصوراتهم الطائفية القديمة، جرعة اطمئنان انفجرت بوجوههم خسارةً مدويةً في انتخابات 2021، وبمعزل عن أسباب عدم دراسة القانون الانتخابي الجديد، لكن نسبة المشاركة ووضع الشارع يشير بوضوح إلى كيفية تحول إنجاز التحرير إلى شيء لا يستدعي الوقوف بالنسبة للعراقيين، لأن الأزمات لا زالت مستمرة، وحتى حين صار "زعماء الفصائل" يخوفون الناس بعد خسارة الانتخابات من أكذوبة حل الحشد الشعبي، فإنّ هذا الحديث كان من الأحاديث اليتيمة التي لا يهتم بها جيوش الفقراء والعاطلين عن العمل والناقمين على النظام السياسي داخل البلاد.
حاول ما يسمى بـ"قادة الحشد الشعبي" أن يدخلوه في معركة انتخابات 2021، وصارت مجموعات كبيرة تترك "السواتر" كما كان يطلق عليها أثناء المعركة، لتعتصم أمام الخضراء عسى أن يضيفوا بعض المقاعد للإطار التنسيقي الخاسر والذي لا يعرف أسباب خسارته، إذ ينظر للمؤامرة تارةً فيجدها من قاموس "الكلاوات" في العراق، ومرةً يرمي الأسباب على التزوير، فيجد أن حليفه، نوري المالكي، قد حصل على مقاعد جيدة، ليعود ويقول إن حقوق المكوّن مقدسة ويجب أن نشكّل "الكتلة الشيعية الأكبر"!
لم يُكسر الإنجاز فقط لأن تجربة "الحشد الشعبي" صارت تمشي جنبًا إلى جنب مع فاسدي النظام السياسي، وإنما لأنها أيضًا تحولت إلى ذراع إيراني وطريقة للعمل في داخل العراق وخارجه من القضايا المصيرية الكبرى إلى أصغر التفاصيل داخل العراق، وهو ما أدى إلى تداول أحاديث عن "حشد ولائي" بشكل واسع بين أوساط الناس. لقد كان العراقيون ينتظرون من "الحشد الشعبي" أن يعلنوا تحرير الموصل مثلًا، أما اليوم، فالانتظار يكون لـ"زعيم حشدي" يظهر مدافعًا عن مقدسين إيرانيين يريد أن يضيفهم على مقدسات العراقيين القديمة والجديدة، هذا على المستوى البسيط، ولا مجال هنا لذكر مسار العلاقات العراقية الإقليمية والتأثير عليها، والتجارة أصلًا بـ"الحشد الشعبي" خارجيًا والتهديد به أحيانًا.
في السابق، استجاب الناس للفتوى لتحرير العراق من الإرهاب، واليوم، يتمّ تحريك بعض هؤلاء الناس أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع الحريات والحقوق، ليس أولها حرق القنوات وغلقها، ومن ثمّ إلغاء حفل هنا وهناك، فضلًا عن حصر هذه الجماعات بخطابات وتصورات طائفية مغلقة وقديمة وتحمل معها انطباعات دموية بالنسبة للذاكرة العراقية.
يفترض ممن يحترم الدماء أن يأخذ الدرس منها لتصحيح المسار السياسي المتعثر في العراق وخاصة على مستوى الدولة
أقول إنّ تجربة الحشد الشعبي ربما بدأت بمحاولات الناس النظيفة للحفاظ على كيان الدولة، واليوم تحولت إلى جزء من معركة يقودها سياسيون وقادة ميليشيات بأحلام إقليمية للحصول على مكسب أو محاولة لحيازة النفوذ على العراق، والحديث عن الدماء فيها، هو حديث يحمل الأوجاع والعذابات، حيث أنّ احترام الدماء يفترض بناء دولة والاستفادة من النكسة، لكن ما حدث هو بناء إمبراطوريات ميليشياوية تقف حجر عثرة أمام أي محاولة لتصحيح المسار السياسي في العراق، وفي حال بقيت الميليشيات متحكمة بالمجال السياسي، فإنّ المأساة التي أحدثها دخول "داعش"، ربما تعود بشكل وآخر، ولن ينفع معها جهل قادة الميليشيات الذين لا جواب لديهم غير المؤامرة وصناعة الأعداء، وقد يكون العدو الجديد هو الشعب العراقي بوصفه عميلًا لـ"السفارة".