"من بين مبادئ البنية ما قبل البيروقراطية [الحديثة] تبدو السلطة الأبوية الأهم بكثير من غيرها". ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع.
يغطي مفهوم العشيرة معظم التقاليد المقدسة في المجتمع العراقي. حتى الفئات المتدينة، لا يمنعها انتمائها الديني من المثول أما سلطة العشيرة، والخشوع أمام رهبة تقاليدها. فحين نشدد على هذا المفهوم بقصد دلالته الأوسع، بوصفه يحتوي كل من العشيرة والمذهب في فضاء اجتماعي واحد يقدس سلطة التقاليد ويعتبرها الشرعية الوحيدة حتى وإن تذرّع بالديمقراطية.
تكمن خطورة ثقافة العشيرة أنها تقدّس التقاليد مفضلة إيّاها على سلطة الدولة المدنية الحديثة
فمن هذه الناحية تُعّد العشيرة، كمكون تاريخي أصيل، أرسخ نفوذًا، من حيث التقاليد، من باقي التشكيلات الاجتماعية الأخرى حتى لو دخل الدين كمكون أساسي لثقافتنا العربية. وأيًا كان الأمر يبقى العراق بلدًا قبليًا بامتياز قبل أن يكون شيئًا آخر.
اقرأ/ي أيضًا: ثقافة القبيلة وظاهرة الغلو في العراق
أكثر من مرة أكتب عن مفهوم العشيرة، الذي يشكل لحم الثقافة العراقية وسداها، ويختلف معي بعض الأصدقاء حول مبالغتي بخصوص هذا الشأن. ذلك أن المعضلة العراقية تتعدى مفهوم العشيرة، كما هو معلوم، خصوصًا إذا أخذنا بنظر الاعتبار تراجع دور العشيرة بوصفها قوة سياسية مهيمنة.
ليس من شك أن الوضع العراقي المعقّد لا يتوقف عند هذه العتبة، غير أنه لا يمكن إنكار أن العشيرة لعبت دورًا تاريخيًا مهمًا في كل الأحداث السياسية الماضية؛ بداية من الاحتلال العثماني الذي دام أربعة قرون، ونهاية بالاستعمار البريطاني في العصر الحديث.
وما بين الاحتلالين كانت العشيرة هي القوة المتمرّدة على سلطة الدولة. وسواء كانت الدولة استعمارية أم مستقلة فيبدو أن سمة التمرّد لا تفارقها، طالما يُعتبر التشريف الاجتماعي هو الأساس الذي تستند عليه "شريعة العشيرة".
حين نتكلم عن العشيرة فمن المؤكد أننا نتناول قضية راهنة وتشكّل روح الثقافة العراقية. وتكمن خطورة هذه الثقافة أنها تقدّس التقاليد مفضلة إيّاها على سلطة الدولة المدنية الحديثة. بكلمة أخرى أنها تضع ما ليس مٌشّرَّعًَا من قبل الدولة موضع تقديس والتزام لأتباعها فيغدو المجتمع دائرة من الصراع على السلطة خارج أطار الديمقراطية.
فنحن، بشكل وبآخر، خاضعون لهذه الأنماط الصراعية، وندخل طرفًا أساسيًا في هذا الصراع بوصفنا فاعلين ديمقراطيين نحاول الحد من هيمنة هذه السيادة التي تكتسب شرعيتها بحكم التقديس الاجتماعي. يمكن القول إن السيادة التي تسعى إليها الذهنية العشائرية هي ما يسميه ماكس فيبر بـ"سيادة الأعيان". حيث يجري تنظيم جميع العلاقات التي لا تخضع للتقاليد المقدسة عن طريق الامتيازات الفردية. أما "السلطة الأبوية"، يقول ماكس فيبر، يكون فيها الخضوع الشخصي لولي الحكم هو الكفيل لاعتبار القواعد المشرعة من طرفه بأنها شرعية، وإنما بموجب حكمه وحدوده فقط توجد "القيم" في حد ذاتها، ولكنها تبقى قيمًا غير مٌشرَّعَة، وإنما مقدسة بحكم التقليد.
ويبدو الأمر دائمًا، يكتب فيبر، على منوال أن هذه الشخص بالذات هو "السيد" وأنه في وعي المحكومين فوق الجميع، وأنه سيحكم بدون قيد أو شرط حسب رغبته المطلقة ما دام حكمه لم يتم تحديده من طرف التقليد. ثمّة حرج شديد وقعت به القوى السياسية المهيمنة يتمثل في محاولة الحفاظ على امتيازاتها "الأبوية" من جهة كونها تتحكم في مصائر المحكومين ولا تحتاج سوى قدسيتها الشخصية، وبين سلطة "الأعيان"، أولئك الذين يملكون، بحسب فيبر، دخلًا ناتجًا عن عمل أم لا، ولكن يُسمح لهم تقلّد وظائف إدارية إلى جانب مهامهم المهنية (المختلفة)، على شرط أن يخول لهم وضعهم الاقتصادي، التمتع بحياة تمكّنهم من الحصول على "مكانة" اجتماعية و"جاه طبقي" وتؤهلهم بالتالي للسيادة.
إنهم يحاولون، بالاعتماد على ذلك النمط من السيادة، التأثير على فعل الآخرين بكيفية تجعل هذا الفعل يحدث على المستوى الاجتماعي، وكأن المحكومين، ولا زلنا نقتبس فيبر، جعلوا مضمون الأمر المعطى، انطلاقًا من ذاته، مبدأ لفعلهم (الطاعة). يتداخل هنا القبلي بالديني محاولًا رسم معالم المشهد الاجتماعي والسياسي العراقي، ومع الاختلافات الجزئية بين أنماط السيادة التي توجد عادة في المجتمعات التقليدية.
غير أن الجوهر الأساس في هذه الأنماط يتحرك ضمن بوصلة واحدة: التأثير في فعل المحكومين لدرجة إيصالهم إلى فعل الطاعة، حتى لو كانت هذه الأخيرة خارج فلك الدولة ومؤسساتها الحديثة. أكثر من ذلك، وأظنه جوهر المشكلة، أن القوى السياسية في موقف لا يٌحسد عليه؛ فهي من جهة، كما ذكرنا، تتعكز على الأنماط التقليدية للسيادة، ومن جهة أخرى اصطدمت بالديمقراطية، التي راهنت عليها لا لإيمانها بالعمل الديمقراطي، بل كانت تعتمد على التشريف الاجتماعي الذي تحظى به من قبل المجتمع العراقي.
والدليل على هذا المأزق أن القوى الخاسرة لم تستفق من صدمة الخسارة الثقيلة بعد، وهي تحاول، بالتلميح حينًا والتصريح حينًا آخر، بتهديد السلم المجتمعي إذا تم تجريدها من هذا التشريف الاجتماعي الذي كانت تراهن عليه.
القوى الخاسرة في الانتخابات لم تستفق من صدمة الخسارة الثقيلة بعد وهي تحاول بالتلميح حينًا والتصريح حينًا آخر بتهديد السلم المجتمعي
عجيب أمر الديمقراطية، فهي، على علّاتها في العراق، أربكت سلطة "الأعيان" وسلطة "الآباء" لدرجة أنهم قد يأخذهم الحنين لأيام الاستبداد الخوالي يوم كان "الأب القائد" هو كل شيء، و"المواطنون" هم لا شيء على الإطلاق مقارنة برهبتهم أمام قداسة التقاليد.
اقرأ/ي أيضًا: