كانت الأجواء أكثر من مثالية بالنسبة للطبقة السياسية التي جاءت مع الحاكم الأمريكي بول بريمر إلى العراق بعد سقوط النظام السابق، بسبب فشل الأنظمة المُتعاقِبة على البلاد في خلق هوية وطنية واحدة لشرائح المجتمع المختلفة، بالتالي تفتيت المجتمع إلى "جماعات" يسهل اجتذابها من قبل القوى الرجعية التي تتخذ من حديث الطوائف والمكونات شعارًا سياسيًا تجاريًا لها.
قد يكون صحيحًا أن الشعوب لا تتعلم من التاريخ؛ لكنها تتعلم من التجارب، خصوصًا مع وجود انفتاح إعلامي وإلكتروني أتاح للناس البسطاء معاينة الواقع كما هو
ومع نظرة الشك والارتياب والتخوين التي تعاملت بها الأنظمة مع شيعة العراق العرب، والتي خلقت "مسألة شيعية" ضربت النسيج المجتمعي (العربي تحديدًا)، استثمرت القوى السياسية الشيعية الوضع القلق لهذه الجماعة الكبيرة خير استثمار، وفعلت ما فعلت ـ مستغلة نظام المحاصصة ـ من ابتذال طائفي وشعارات وخطابات يقشعر بدن المرء حين يتذكّرها.
اقرأ/ي أيضًا: الانتهاكات وسوء الخدمات في مواجهة الموسيقى.. أيهما "يخدش" قدسية كربلاء؟
قد يكون صحيحًا أن الشعوب لا تتعلم من التاريخ؛ لكنها تتعلم من التجارب، خصوصًا مع وجود انفتاح إعلامي وإلكتروني أتاح للناس البسطاء معاينة الواقع كما هو، لا كما تُريد أن تنقله السلطة، فضلًا عن الهزّات الكبيرة، مثل انتشار الإرهاب، والكشف عن صفقات فساد ضخمة، التي تزعزع السكون الاجتماعي، وتقلقه، ثم تسيّسه بالضرورة!
التسييس هنا، هو دخول المجتمع في قلب العمل السياسي، ومتابعة ما يجري والتفاعل معه بمختلف الطرق. هو "عدم اعتزال" السياسة من قبل العامّة، وهذا لا يتعارض مع عدم مشاركته في الانتخابات النيابية والمحلية، بل "عدم المشاركة" هو فعل سياسي أساسه الاحتجاج على الطبقة السياسية الحاكمة.
مثّل هذا الاحتجاج، نموذجًا لخرق الجماعة الشيعية لـ"فكرة" الطبقة السياسية التي دخلت الانتخابات بدعوى "الوجوب الديني لانتخاب قائمة 555" التي جمعت ما سُمّي التحالف الوطني، والتصويت على الدستور بواسطة "شمعة المرجعية". وتتابعًا، أصبح التحشيد الطائفي عبر الخطاب "ضد الآخر" لا يؤتي أؤكله مع فئة الشباب المُطالِبة بفرص العمل والخدمات وغيرها.
مع الانتكاسات الأمنية والكم الهائل من الشهداء والجرحى، وسرقات السياسيين العلنية، وتدهور الوضع الاقتصادي الذي أجبر الحكومة على تخفيض هائل للتعيينات الحكومية التي تساعد على ديمومة الطبقة السياسية اجتماعيًا، تبلور ما يُمكن تسميته "عَلمنة المطالب" الشعبية والتأكيد عليها.
الشباب يعتبرون الفساد الحكومي ونهب الثروات والعمالة للخارج وقتل الناس وتسوّل كبار السن والأطفال في الشوارع، هي الأمور التي تنتهك قدسية كربلاء
تتلقف الأحزاب السياسية الشيعية، الأحداث التي يُمكن استثمارها لشحن المشاعر المذهبية، لتنبري في خطابٍ عاطفي، دفاعًا عن رموز المذهب وثوابته، يُظهرها بمظهر قيادة الـ "نحن" الشيعية، بالضد من الآخر، الأمر الذي قد يُتيح لها احتواء جماهيرها المحتجة على تردي الأوضاع عمومًا، وتسْكين الغضب عبر مورفين المذهب.
اقرأ/ي أيضًا: بين الأسواق وصفحات فيسبوك.. سلطة الأنبار تبحث عن "القدسية" بثوب "داعش"!
ليس جديدًا، ما خلقه حفل افتتاح بطولة غرب آسيا في مدينة كربلاء، من ردود فعل استغلتها أحزاب وشخصيات سياسية لتدافع عن "قدسية المدينة" التي انتهكتها عازفة الكمان ذات الأكمام المرفوعة!
لكن البيانات الغاضبة والخطابات الرنانة، جوبهت بسخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والأهم هنا، هو دخول فئة جديدة من المعترضين، ممن لا تهمهم العَلمانية ولا يتخذون منها هوية كما يفعل بعض الناشطين والسياسيين الذين يلبسون قشور العَلمانية لتمييز أنفسهم عن الإسلاميين. المعترضون الجدد هم أبناء الوسط الديني، الذين هم بالضرورة الجمهور المفترض الموزع بين الأحزاب الإسلامية، أو الساكت عنها على الأقل. بات هؤلاء المعترضون يَردّون على خطاب "القدسية" بخطاب "المطالب العينية". يعتبرون الفساد الحكومي ونهب الثروات وانهيار البنى التحتية والعمالة للخارج وقتل الناس وتسوّل كبار السن والأطفال في الشوارع، هي الأمور التي تنتهك قدسية كربلاء.. وذلك خطاب جديد بالنسبة للأحزاب، كونه خارجًا من رحم قاعدتها الاجتماعية.
لا يهتم جيل الشباب الصاعد كثيرًا لضرورة أن تعزف امرأة وترقص أخرى في مدينة كربلاء بحجة أن ذلك هو الصحيح "علمانيًا"؛ المسألة بالنسبة لهؤلاء هي المَطالب الحقْة التي تضيع وسط فساد الأحزاب الإسلامية. هم يعتبرون أن تلك المطالب "حق شرعي"، يتداخل الآن مع "الحق الإلهي" الذي تتشدق به تلك الأحزاب، ومطالبهم عَلمانية، بتعريفِها البسيط: "الدنيوية". يقول الشباب الآن إن لدينا حقوقًا في الحياة الدنيا لا يُبرر نهبها حديثكم عن "الآخرة".
تكمن خطورة هذا الخيار بالنسبة للأحزاب، من وجهة نظرنا، بأن المعترضين على خطاباتهم وأدائهم لا يلبسون "هوية عَلمانية" يُمكِنُها خَلق "هوية إسلامية" بالمقابل، تتيح للأحزاب تحشيد الشرائح "المُعبّئة إيمانيًا" تحت لوائها.
لا يهتم الشباب لضرورة أن تعزف امرأة في كربلاء بحجة أن ذلك هو الصحيح "علمانيًا"؛ المسألة بالنسبة لهؤلاء هي المَطالب الحقْة التي تضيع وسط فساد الأحزاب الإسلامية
تضع المطالب العلمانية التي لا تخرج من "جماعات الهوية"، الطبقة السياسية، أمام خيارين: إما أن تمضي بإصلاح ملموس يُوصِل إلى إنجازٍ يُرضي أصحاب المطالب، أو أن تُشدد السلطة وأحزابها من خطابها التعبوي دون فعاليةٍ أو تَقدمٍ على المستوى المحسوس بالنسبة للمواطن، وهو ما يُعطي المجال لاتساع دائرة القاعدة التي تُطالب بحقوقها، متجاوزةً الخطابات والشعارات العاطفية، دون السماح للطبقة السياسية باستغلال شعارات المطالب لتكفير أصحابها، وهي النقطة الأهم.
اقرأ/ي أيضًا: قانون قدسية كربلاء.. "لمدينة أحلى وأجمل" بلا حياة!
من هنا نؤكد دائمًا، على ضرورة أن ينحصر الصراع مع هذه الأحزاب بـ"المطالب والحقوق"، لا بالانشغال في ضرب هويتها أو خطابها الديني، وتحميل "آيديلوجيتها" السبب في فشل النظام ببناء الدولة وتقديم الخدمات، كون الصراع مع "الهوية" يُتيح لها فرز الناس لهويات متعددة، تَضيع في عاصفتها مطالب الناس وحقوقهم.
نفترض من أصحاب الهمّ الوطني ألّا يَضعون "العلمانية" غاية في مجابهة السلطة، فالواقع وصيرورته كفيلٌ لتبيان الحقائق للناس، وزيادة وعيهم بسلوكيات الأحزاب القائمة وطرقها الملتوية في الحصول على رضا العامّة، ثم أصواتهم الانتخابية.
"فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفعُ الناس فيمكثُ في الأرض"، كما جاء في القرآن.
اقرأ/ي أيضًا:
أحدهما أهدر ملايين باسم الحسين.. كيف أنقذ "علوش جرمانة" مسؤولين فاسدين؟!