ساهمت الظروف والإخفاقات الحكومية منذ ثمانينيات القرن الماضي بتفاقم أزمة المياه في محافظة البصرة، رغم التقاء نهري دجلة والفرات في شط العرب، والإطلالة البحرية للمدينة الغنية بمواردها والفقيرة بخدماتها، والتي يكافح أهلها للحصول على الماء الصالح للشرب منذ سنوات، إذ نقل نحو 120 ألف شخص إلى المستشفيات في المحافظة صيف 2018 جرّاء تلوّث المياه، مما أثار احتجاجات كبيرة، أدّت إلى أن تقدم الحكومتين الاتحادية والمحلية وعودًا بإقامة مشاريع عملاقة لحل الأزمة، من بينها إقامة سد على شط العرب أو تحلية مياه البحر.
لم يكن ملف تحلية مياه البصرة بعيدًا عن صراع الشركات وشبهات الفساد كما كشف عن ذلك أعضاء في البرلمان
وعلى ما يبدو، أنه لا نهاية لأزمة البصريين، إذ عادت أزمة ملوحة المياه إلى البصرة في هذا الصيف، كما في كل عام، وسط تحذيرات من استمرار تجاهل الملف، والذي فاقمت أزمة كورونا خطورته.
اقرأ/ي أيضًا: خلال نصف قرن من تاريخ "أرض السواد": ما هو مصير 33 مليون نخلة عراقية؟
وفي صيف عام 2019 أيضًا، حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش من خطر تكرار أزمة المياه في محافظة البصرة على غرار عام 2018، وذلك في حال لم تقم السلطات بتدارك الأمر وحل مشكلة تلوّث المياه هناك.
أسباب الأزمة
ويفصّل مختصون أسباب أزمة المياه المتكرّرة في البصرة إلى عدّة أسباب، أبرزها؛ قلّة الإطلاقات المائية الواصلة للمحافظة وتدفق اللسان الملحي إلى داخل مجرى شط العرب، بالإضافة إلى تلوّث الأنهر الفرعية.
وتعود الأسباب المؤدية إلى تدهور نوعية المياه في البصرة إلى ثلاثة أسباب، بحسب الخبير المائي، فلاح الموسوي، أولها قلّة التصاريف المائية الواصلة إلى البصرة والمغذية إلى شط العرب من مصادره الرئيسية، حيث كان شط العرب سابقًا يتغذى من خمسة مصادر مائية رئيسية هي نهر دجلة ونهر الفرات بفرعيه الكارون والسويب، أما الآن؛ فقد قطعت كافة تلك المصادر، ولم يتبق سوى مصدر وحيد وهو نهر دجلة.
ويضيف الموسوي وهو نقيب المهندسيين الزراعيين في المحافظة لـ"ألترا عراق"، أن "نهر دجلة يصرف بواقع يتراوح بين 50 إلى 120 م3 /ثا حيث تنزل التصاريف عند حدوث شحة مائية طويلة كما حدث عام 2018، إذ وصلت تصاريف ناظم قلعة صالح إلى أقل من 50 م3/ثا".
وحدد الموسوي السبب الثاني للأزمة بـ"تدفق اللسان الملحي إلى داخل مجرى شط العرب، والذي يتناسب عكسيًا مع التصريف المائي، أي كلّما قل التصريف المغذي لشط العرب اندفع اللسان الملحي لمسافة أعم"، لافتًا إلى أن "السبب الثالث هو الأنهر الفرعية وما تحمله من ملوّثات مختلفة من مياه الصرف الزراعي والصحي وغيرها، مما فاقم من أزمة تدهور نوعية المياه الواصلة إلى المواطنين".
ووقعت وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة في نيسان/أبريل 2019، عقد مشروع تحلية مياه البحر في محافظة البصرة مع شركة ILF النمساوية، وذلك لإعداد المخطّطات الرئيسية والتصاميم النهائية لمشروع تحلية مياه البحر بطاقة تصل إلى مليون متر مكعب.
ويرى الخبير المائي فلاح الموسوي مشروع تحلية مياه البحر، بأنه "ممكن أن يكون حلًا لتوفير مياه الشرب والإسالة لسكان البصرة إذا ما تم إنشاء مشاريع عملاقة لتحلية مياه البحر، لكنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل مشكلة مياه الري للقطاع الزراعي والاستخدام الأخرى غير المنزلية".
شبهات فساد تلاحق مشروع تحلية المياه
ولم يكن ملف تحلية مياه البصرة بعيدًا عن صراع الشركات وشبهات الفساد فيما بين الشركة النمساوية والشركة البريطانية، كما يتحدث أعضاء في مجلس النواب.
وفي آذار/مارس 2019، أحالت النائبة عالية نصيف، مشروع تحلية ماء محافظة البصرة إلى هيئة النزاهة والادعاء العام، مطالبة بـ"إجراء تحقيق لوجود شبهات فساد في المشروع"، وبحسب معلومات نصيف، أن "الشركة لا تمتلك أعمالاً مماثلة وأن هناك غبنًا فاحشًا يلحق بالدولة، بسبب المغالاة في قيمة العقد والتي هي ضمن القرض البريطاني".
من جهة أخرى، تتحدّث تقارير صحفية عن شبهات فساد وابتزاز تعرض لها ائتلاف شركتي (وود- باي ووتر) البريطانيتين، حالت دون تنفيذ مشروع تحلية مياه البحر، الأمر الذي استبعد شركات استشارية بريطانية كبرى، والتوجه للتعاقد مع شركة استشارية نمساوية مقرها في الإمارات، بحسب مصدر مسؤول بوزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة، ما قد يهدّد بإلغاء المشروع بالكامل، وحرمان المحافظة من هذا المشروع الذي يوصفه خبراء بـ"الاستراتيجي".
علاقة إيران بتأخر إقامة مشروع سد شط العرب
وفي ظل تلك الشبهات التي يتحدث عنها برلمانيون ومسؤولون، تتجه الأنظار صوب مقترح مشروع إقامة سد على شط العرب، الذي لا زال يراوح طاولة الدراسات منذ سنوات، حيث تقول وزارة الموارد المائية إن "الجانب الإيراني كان أحد الأسباب التي تقف أمام إقامة المشروع".
وفي حديث لـ "الترا عراق"، ذكر المتحدث باسم الوزارة عون ذياب أن "مشروع السد عليه جدل طويل ورغبة الوزارة أن يكون مشتركًا مع الجارة إيران في منطقة رأس البيشة، وهذا ما نعمل عليه حاليًا، وهناك دراسات مستمرة حول هذا الموضوع، لأن تحديد موقع السد مهم جدًا بالنسبة لمستقبل شط العرب بالكامل".
وعن المعوّقات التي تقف أمام المشروع، يقول ذياب إن "تأخر الاتفاق مع الجانب الإيراني هو ما أخّر المضي بالمشروع، حيث أن الوزارة لم تجتمع حتى الآن مع الجانب الإيراني، رغم تقديم العراق طلبًا بهذا الشأن"، موضحًا أنه "قد يكون تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة ساهم بتأخر عقد هذا الاجتماع أو ربما أسباب أخرى لا نعلمها".
ويعلّق الخبير المائي فلاح الموسوي، على مشروع السد بالقول، إن "حل السدة التنظيمية ممكن أن يساهم في إنقاذ الجزء الأكبر من شط العرب لغاية ميناء أبو فلوس، وتنقل المياه لمناطق ما بعد السدة بواسطة قناة كتيبان الأروائية أو شق قنوات جديدة"، موضحًا أن "شرط هذا الإجراء هو يجب إزالة مصادر التلوّث قبل جسم السدة، وإجراء عمليات الكري المناسبة ورفع الغوارق، وهذا ما سيتم تحديده بشكل أكثر وضوح من خلال دراسة المكتب الاستشاري التخصصي".
الحلول الوقتية.. ماذا بعد؟
تصف وزارة الموارد المائية، كميات المياه الواصلة إلى قناة البدعة بأنها "جيدة جدًا حيث تصل إلى 7م3/ثا لمحطة مشروع العباس"، ويقول المتحدث باسم الوزارة إن "هذه كمية ممتازة، لكن هناك مشاكل داخلية ضمن إدارة ماء البصرة، من خلال إيصال المياه إلى محطات التصفية في منطقة البراضعية بالذات، أما بقية المناطق جميعها تم معالجتها".
أطلق نشطاء في البصرة حملة "حقنا" للضغط على الحكومة في إنجاز المشاريع الكبرى التي من شأنها حل أزمة المياه
وعن الحلول الجذرية لمشكلة الملوحة، يقول عون ذياب إنه "يجب على مديرية ماء البصرة أن تأخذ المياه من مصدرين، وهما قناة البدعة والقناة الأروائية التي تنقل المياه من منطقة كتيبان، لأن تراكيز الأملاح فيها منخفضة جدًا، ففي قناة البدعة لا تتجاوز الأملاح فيها (1000 بالمليون)، وفي الأروائية لا تتجاوز (1200 بالمليون) وهي مياه جيدة وصالحة للاستخدامات البشرية بشكل كامل، وبدون أن تتعرض إلى تلوّث لأنها من مصادر لا تصب فيها مياه المجاري".
اقرأ/ي أيضًا: السد المشترك مع إيران.. هل يكون فيروسًا يخنق رئة العراق التجارية؟
من جانبها، نفت مديرية الموارد المائية في البصرة وجود أزمة جراء ملوحة المياه في المحافظة، مؤكدة أنه "تمّت السيطرة على الموضوع".
وعن أسباب تلكؤ إقامة المشاريع المائية الكبرى، برّر مدير الدائرة، جمعة شياع في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "مشروع تحلية مياه البحر تابع إلى مديرية البلديات وغير تابع لنا، أما مشروع السد، فلا زال قيد الدراسة"، مضيفًا أن "مشروع السيد ليس عمليةً سهلةً، لأنه سيساهم بتغيير طبيعة أرض البصرة ويتطلب دراسته أكثر من عشر مرات".
وأشار إلى أن "أزمة الملوحة كانت لأيام معدودة واستطعنا التغلب عليها"، وعن ضمان عدم تكرار الأزمة في كل صيف، يقول شياع إنه "لدينا حلول وقتية كالمراشنة والاستعانة بالخزين المائي لتجاوز الأزمة".
"حقنا".. حملة شعبية للمطالبة بالمياه
وأطلق عدد من الناشطين في البصرة حملة "حقنا"، للضغط على الحكومة في إنجاز المشاريع الكبرى التي من شأنها حل ازمة المياه في المحافظة.
ويقول فلاح الأميري، وهو أحد القائمين على المبادرة، إن "الحملة أطلقها مجموعة من ناشطي وإعلاميي البصرة، للمطالبة بحلول حقيقية وجذرية لأزمة المياه التي تقاعست عنها الحكومات لسنوات"، مؤكدًا: "نحاول تسليط الضوء على المشكلة، وتوعية المجتمع بخطورتها والضغط على الحكومات المحلية والاتحادية باتجاه حلول حقيقية تنقذ هذه المدينة من الماء القاتل".
ونظّمت الحملة العديد من الورش التي استضافت خلالها مسؤولون ومختصون، في سبيل الخروج بحلول وتقديمها على شكل مقترحات إلى أصحاب القرار، بحسب الأميري.
وتسبّبت أزمة ملوحة المياه بتعرض أعداد كبيرة من فسائل النخيل والأشجار، خاصة في جنوب البصرة إلى الهلاك، كما تضرّر أصحاب البساتين ومزارعي الخضروات، خاصة في أبو الخصيب والفاو والسيبة وشط العرب والكرمة، كما تضرّر العديد من مربي الثروة الحيوانية، جرّاء تأثر حيواناتهم بالمياه المالحة وارتفاع أسعار الأعلاف.
فُقدت حوالي 87 بالمئة من الأراضي الزراعية في البصرة كليًا أو جزئيًا
وبحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، أن العراق أنتج في السبعينيات، أكثر من مليون طن من التمور سنويًا، وبلغت الصادرات من البصرة وحدها 130 ألف طن سنويًا، لكن منذ ذلك الحين، فُقدت حوالي 87 بالمئة من الأراضي الزراعية في البصرة كليًا أو جزئيًا بسبب تسرّب مياه البحر.
اقرأ/ي أيضًا:
لسان الموت يتربص مجددًا.. ما علاقة إيران بمشروع سد شط العرب؟