كان المؤرخ البريطاني توماس أرنولد يقول متحدثًا عن حرب الأفيون "أرى أن هذه الحرب شريرة إلى درجة اعتبارها خطيئة وطنية من أعلى الدرجات، وهي تصيبني بهذا الأسى العميق. فهل هناك أي شيء لإيقاد عقول الناس إلى هذا الذنب المروّع الذي نقترفه؟ أنا فعلًا لا أذكر إنّي قرأت في التاريخ كلّه على حرب اشتملت على هذا القدر من الظلم والخسّة مثلما اشتملت عليه هذه الحرب".
إن كانت ثمّة دعوات للقطيعة مع المنجز الغربي فهي بالتأكيد دعوات لا تحتاج منّا جهدًا مضاعفًا لإثبات جنون مدعيها إن وجدوا. لكن السؤال المهم: ما هي الكيفية التي تجعلنا ضمن هذا التراث الإنساني العظيم؟ ذلك التراث الذي تندمج فيه حضارات عدّة، ومنها: الهندية، الصينية، المصرية، البابلية، اليونانية، الإسلامية؛ بعبارة أخرى، إن الحضارة الغربية أضحت المركب والوحدة التي تجمع كل هذه التناقضات "الحضارات". فمن هذه الناحية، يغدو المنجز الغربي تراثًا إنسانيًا شاركت فيه معظم البشرية، ومن ثم زادت عليه من خلال الكشوفات الكبرى التي حققتها الحداثة.
لم تكن أوروبا من صنعت تراثها وحدها بل هو تراكم حضارات عريقة قامت على رؤوس أسلافنا الغابرين لهذا أن المنجز الغربي يعتبر تراثًا إنسانيًا شاركت فيه معظم البشرية!
وحينما نقول إرثًا إنسانيًا، نعني به، وعلى طريقة المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي (1889-1975)، إن هذا الإرث لم يكن نتاج حضارة واحدة، كما يحلو للعرقيين، ولم تكن أوروبا وحدها من صنعت هذا التراث، بل هو فعل تراكم حضارات عريقة قامت على رؤوس أسلافنا الغابرين.. فمن هذه الناحية الحضارات لا تموت، بل تتحرك في المكان، وتندفع إلى مكان أرحب بعد أن فقدت شروط ازدهارها في مكانها السابق؛ فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية المكان الذي ازدهرت فيه العلوم والآداب والفنون والفلسفة والتاريخ إلخ.. واستطاعت أن تجمع التراث الإنساني للحضارات السالفة ثم زادت عليه.
اقرأ/ي أيضًا: شعبوية ترامب وصراع الحضارات.. مسارات تفكك "الغرب"
بهذه المقدمة الوجيزة يمكن القول إن الحضارة الإنسانية إرثًا لنا ولأجيالنا القادمة، ذلك إن أسلافنا - الشرقيون سابقًا والغربيون لاحقًا- ساهموا بهذا التراث العظيم؛ بمعنى آخر، إن الحضارة الإنسانية لم تكن صنيعة " الأشقر" فحسب!، وهذه الحقائق، ربما، لا ترضي اليمين المتطرف.. والحضارة الغربية اليوم عليها مسؤولية أخلاقية مضاعفة بعد أن كبدت الشعوب خسائر فادحة عبر استغلالها ونهبها واحتلالها، وتحول العالم على يد هذه القوى الغازية إلى "مركز وأطراف" ولم تعد الأطراف تحظى بنصف استقلال، وبسبب الاستبداد العالمي تجاه الأطراف تفاقمت لدى أنظمة بلدان "العالم الثالث" حالة الطغيان، هذه الحالة التي أفرزت لنا ثنائية "الطاغية والعبد" التي ساهمت بشكل مباشر بالانسداد بكل أشكاله وصنوفه، إذ يمكن أن تبيد شعبًا بأكمله تحت حماية هذا "النظام العالمي"، شريطة أن تبقى مصالحه الاقتصادية والجيوسياسية مُؤَمَّنَة، والشعب اليمني شاهد على هذه المأساة المروّعة.
قبل أن يتندّر المتعصبون الغربيون عن ظاهرة تكاثر ذوي البشرة غير البيضاء، ويقلقوا على منجزهم الحضاري، فليحثوا حكوماتهم على إرجاع الدَين للبلدان التي نهبوها وأمعنوا في احتقارها وتعاملوا معها على أنها أعراق "منحطّة". ولكي نعرف كيف ينظر بعض المتعجرفين البيض تجاه الأعراق الأخرى، فهناك تاريخ أسود عن نظرة الغربي للملونين يتكلم عن أكبر الفظاعات التي ارتكبها الغزاة البيض بحق الشعوب الأخرى.
ينقل لنا الباحث اللبناني أسعد أبو خليل، من خلال استعراضه وثائق دامغة عن الاستعمار الأمريكي في كتاب "كيف تخفي إمبراطورية: تاريخ الولايات المتحدة" لدانيال إيمير فاهر، وهو يستعرض أهم الوثائق التاريخية. ويقتبس لنا أبو خليل اعترافات الطبيب الأميركي كورنليوس رودس الذي وضعته مجلة "تايم" على غلافها سنة 1949، تقديرًا لاكتشافاته في حقل مكافحة السرطان، يقول رودس وهو يصف سكّان بورتوريكو "الفقراء" إنهم بلا شك أوسخ وأكسل وأحطّ وأنصب عرق. أشمئزّ أنني أقطن نفس الجزيرة معهم. إنهم أدنى من الهنود. ما تحتاجه الجزيرة هو "تسونامي" لإبادة السكّان، مضيفًا "لقد أديتُ قصار جهدي كي أخدم مسيرة الإبادة عبر قتل ثمانية منهم وزرع السرطان في آخرين".
في الحقيقة لا يحتمل الغربي المستعمر من ينافسه ويساهم معه في صنع الحضارة؛ فقد تم تنكيل الصين من قبل بريطانيا العظمى لضمان تفوق ميزانها التجاري على الصادرات الصينية من خلال تصدير الأفيون!، فضاعت الأمّة الصينية في ظلام حالك تتلمس دروبها بعد أن دمّرها المستعمر البريطاني، وراح يراكم ثرواته الضخمة، من خلال نهب ثروات الشعوب الأخرى، فلولا هذه الأخيرة لما كان الغرب على هذه الصورة اليوم.
لا يحتمل الغربي "المستعمر" من ينافسه ويساهم معه في صنع الحضارة وهو يراكم ثرواته الضخمة من خلال نهب الشعوب الأخرى، فلولا الأخيرة لما كان الغرب بهذه الصورة!
في الأخير نترك عالم الاجتماع الأمريكي أيمانويل والرشتاين، نقلًا عن الباحث الفلسطيني د. سيف دعنا، يسرد لنا هذه الحقيقة التاريخية الصادمة "لم تحقق أوروبا هذه الإنجازات التاريخية "تحديدًا بناء "دولة الرفاه" و"الديمقراطية الليبرالية"، أو "حق الانتخاب العام"، بشكل مستقل واعتمادًا على مصادرها وثرواتها فقط. بل، كانت هذه الإنجازات ممكنة التحقيق فقط اعتمادًا على نظام عالمي أوروبي المركزية سهل باستمرار عملية انتقال الثروة وتدفقها من مجتمعات الجنوب إلى مجتمعات الشمال. فمنذ ما سماه والرشتين "القرن السادس عشر الطويل" (1450 - 1640) تأسس نظام رأسمالي عالمي مكّن أوروبا من نهب ثروات شعوب دول الجنوب بشكل مباشر، عبر الاستعمار الكلاسيكي، وغير مباشر، عبر منظومة عالمية "الاستعمار الجديد"، سهلت انتقال وتدفق الثروة عبر آليات متعددة كالتبادل غير المتكافئ للقيم الاقتصادية والتقسيم العالمي الإجباري للعمل لصالح أوروبا.
اقرأ/ي أيضًا: