قريبًا من تقاطع المفتاح تقفُ الجِنازةَ، يَشكرُ ذوي المتوفي المشيعين، يعلو صوت أحد الواقفين "رحم الله والديكم حاللوه وأوهبوه .. إبروه الذمة"، تمضي الجِنازة في الطريق إلى مقبرة وادي السلام، صمتُ وحزنُ عميق يُخيم على الجنّازة لا أحاديث ولا صوت غير تسجيل تلاوة القرآن الذي يتحكم فيه السائق.
يسود مشهد غير معتاد خلال رحلات نقل جنائز المتوفين بكورونا إلى النجف
بمجرد عبور جسر النعمانية يتبدل القرآن إلى لطميَّات بموسيقى راقصة تتوقف بعد حين بإرادة السائق فتغدو الفرصة متاحة لتبادل الأحاديث التي بدأت تنسُل خلسة بين الجَنّازةَ، تتطور أحاديثهم إلى نقاشات قبل المالح، تزداد مع الوصول إلى سيطرة الدغّارة المزعجة فتبلغ حد المشاحنات إذا ما تناولت جانباً من السياسة وأقطاب فسادها.
تخفتُ الحوارات والنقاش كلما اقتربت الجنازة من مقبرة وادي السلام، يبادر السائق بإعادة تشغيل القرآن أو اللطميّات حسب رغبته، يحصل ذلك عند التوقف في سيطرة مدخل النجف حيث تُدَوّن معلومات المتوفي في سجل روتيني دوّنت فيه أسماء موتى الجنوب كلهم لكن بلا تسلسل مضبوط.
يسود هذا المشهد في نقل الجنائز الاعتيادية لكنه مختلف مع نقل جنائز المتوفين بكورونا، والتي تقاطرت إلى مقبرة وادي السلام بعد أن أفتى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني في الثامن والعشرين من آذار/مارس 2020، بعدم جواز ممانعة دفن جثامين المتوفين بفيروس كورونا في المقابر العامة .
قبل تلك الفتوى ومع حصول وفيات بين المصابين بالوباء شغلت الرأي العام قضية المتوفين وما آلت إليه عملية الدفن بعد رفض المقابر الرسمية وسكان المناطق القريبة من المواقع التي وقع الاختيار عليها لدفنهم، ما أدى إلى تكدس الجثث في ثلاجات المستشفيات وسط جدل كبير بين السلطات الحكومية وذوي المتوفين.
هدأت واستقرت الأمور قليلاً بعد الفتوى، لكن نقل جنائز المتوفين إلى مقبرة وداي السلام في النجف ظل أمرًا مقلقًا للسلطات الحكومية ولذويهم ليأتي الدور على هيئة الحشد الشعبي التي كلفت معاونية شؤون الشهداء والمقاتلين/قسم الخدمات الصحية بدفن جثث المتوفين بسبب فيروس كورونا، بعد تخصيص قطعة أرض لهم وتكليف الكادر الطبي لقسم الخدمات الصحية في مقار الحشد في المحافظات بالإجراءات الخاصة بنقل جنائزهم إلى مقبرة النجف.
وقعت المهمة في واسط على ثُلة من أبناء المحافظة عددهم سبعة أشخاص، ساهموا قبل ذلك في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، يوم كانوا ضمن فصيل طبابة هيئة الحشد تحت قيادة الشهيد حسين حليم.
سجلوا عندكم هذه الأسماء فقد يكونوا جنّازيكم يوما ما :الدكتور الصيدلاني صفاء عدنان الاعرجي، مسؤول وحدة طبابة الحشد في واسط ، معاون طبي علي حنين عطية العتابي، أحمد مجيد جبوري، هؤلاء الثلاثة مُنسبون من الصحة الى الحشد إضافة إلى علي جبار، ضياء عواد نجم ، حيدر فاضل أبو الطيب، وسائق الإسعاف أحمد عبد الحسين چليب الذي نقل كل المتوفين بكورونا بعجلته وفي كل مرة معه واحد فقط من الستة الآخرين.
بعد يوم واحد من إيكال مهمة نقل جنائز المتوفين بكورونا لهذه النخبة حصلت حالة وفاة لأحد المصابين وهو الشيخ سعيد جبر بليو، وصلهم التبليغ بذلك فكانت المهمة صعبة عليهم بداية الأمر وهي صعبة أيضًا على ذوي المتوفي نفسه، فالتعليمات تقضي بوجود شخصين في سيارة الإسعاف التي تنقل الجنازة إلى النجف، السائق وأحد أعضاء هذه المجموعة لكنه يجوز، وفق التعليمات أيضًا، لأربعة أشخاص فقط من ذوي المتوفي مرافقة الجنازة بسيارة واحدة حفاظًا على حياة الآخرين من انتقال الفيروس لهم.
هذه الأمور وضّحها رئيس الفريق المكلف بنقل الجنازة، الدكتور صفاء عدنان الأعرجي لذوي المتوفي، شارحًا لهم عملية الدفن التي ستكون حسب الطرق الشرعية والطبية المطلوبة، إذ تجري للمتوفي كافة الأعمال الواجبة والمستحبة قبل وأثناء وبعد الدفن من قبيل التغسيل والتكفين والصلاة وزيارة الأئمة والتلقين بوجود طلبة متطوعين من الحوزة العلمية .
تكررت حالات الوفاة، وفي كل مرة يذهب أحد الأعضاء مع سائق الإسعاف الغيور أحمد عبد الحسين، وهناك تنسيق مابين الفرق التي تنقل المتوفين من المحافظات وبين إخوانهم من أبطال فرقة الإمام علي عليه السلام التابعة إلى العتبة العلوية المتواجدين في المقبرة المخصصة لهذا الغرض .
يذكر المعاون الطبي علي حنين العتابي، أن "التحرك إلى المستشفى يتم بمجرد تلقي التوجيه من مكتب الحشد في المحافظة أو من الصحة بوجود شخص توفي بكورونا في أي مستشفى في المحافظة. نذهب جميعًا بعد ارتداء كافة التجهيزات الوقائية ويتم استلام الجثة ووضعها في التابوت ونقلها إلى الإسعاف بمساعدة الكوادر الصحية الموجودة حيث تجري عملية تعقيم وتعفير كاملة وشاملة"
"ننطلق مباشرة إلى النجف وغالبًا ما يكون الانطلاق ليلاً لوجود تنسيق متفق عليه بيننا وبين فريق الدفن الموجود هناك بسبب الحر نهارًا، فما نرتديه من عدة وقاية وإحكامها جيدًا على أعضاء الجسم يجعلنا نتصبب عرقًا ولا يمكن رفع أي قطعة من تلك العدة لحين العودة إلى أسرنا وخلع كل الملابس خارج المنزل ثم نمر بعملية تعقيم قبل وبعد الاستحمام وكم من خطورة في ذلك على عوائلنا".
منذ اللحظة التي توضع فيها الجنازة في سيارة الاسعاف (أحيانًا يضعون جنازتين في آن واحد) وإلى حين الوصول إلى المجموعة الأخرى التي تستلمها قرب المقبرة المخصصة لضحايا كورونا في النجف يُتلى القرآن طول الطريق والأدعية والمآتم الحسينية، وتسلك الجنازة طريقًا آخر غير المعتاد لتقليل المرور بالمدن والزحامات خشية على الناس من الإصابة .
هؤلاء الجنّازة يختلفون عن غيرهم، فهم لا يفكرون عند العودة بتناول الكباب والتشريب في مطعم العراق أو مطعم بيت النجف
هؤلاء الجنّازة يختلفون عن غيرهم، فهم لا يفكرون عند العودة بتناول الكباب والتشريب في مطعم العراق أو مطعم بيت النجف، ولا في مطعم بركات الكرار في جانب آخر من الطريق، بل لا يتناولون الشاي حتى، لكنهم يُجبرون على شرب الماء، فالحرارة لا تطاق بوجود ملابس الوقاية وطوال فترة ارتدائها.
الغريب في الأمر أن جنّازيكم إذا ما توفيتم بكورونا نتيجة استخفافكم به يتحملون ثمن وقود الإسعاف ولا يتقاضون عن ذلك أية مخصصات ولا خطورة و"لاهم يحزنون"، و أكثر ما يخشونه هو انتقال العدوى إلى عوائلهم.
اقرأ/ي أيضًا: