الكثير منّا يعتقد أنه في الحاضر، لكنّه في الماضي، غارق في بحر الصور المزيّفة التي يكونها عن هذا العالم، تلك الصورة التي يتأملها الفكر ظنًّا منه أنها الحقيقة. يحاول الفكر الهروب من الصورة، الهروب من الجاهز، لكنّه يحتاج إلى من يقرع له جرس الانتباه، ليخبره: إنّك أوسع ممّا تتصوّر! أوسع من الصورة التي تكوّنها عن نفسك. إن الفكر يشبه الكون في سعته ولا نهائيّته، فكل وقفة للفكر هي حالة احتضار وتضييق سعة الوجود. عادة لا تعترف الهويات الجماعية بهذه المقدمات، ذلك أن هذه الأخيرة تهديدًا لوجودها؛ فهي ترمم نرجسيتها الشخصية من خلال الانتماء لنرجسية جماعية، كما يعلمنا اريك فروم، فبالتالي تغدو هذه المقدمات أعلاه تهديدًا لبقائها وطمئنينتها.
لا زال معتنقي الأديان المتعصبين، يجمعهم الله وتفرقهم هوياتهم العقائدية، لكنهم يبررون كل هذه القسوة كقربة إلى الله
يفصل الإنسان نفسه عن العالم في اللحظة التي يبني فيها تصورات مسبقة عن فهم الذات والآخرين. لدينا تاريخ بشري هائل مشبع بالألم القسوة؛ نسارع إلى الاحتكام لصورنا الذهنية المسبقة للحكم بطرد الآخرين من حظيرة البشر، ليس لشيء سوى أنهم لا يتوفرون على نسخ ذهنية مُخَزّنَة في هويتنا المُصَنَعَة! يمكننا أن نفترس الآخر قبل أن نلتقي به، ونحيل تاريخه إلى محض أكاذيب وخرافات طالما لا توجد إحالات مرجعية سليمة وخيّرة في هويتنا العقائدية لتاريخه.
اقرأ/ي أيضًا: عن الهوية والاختلاف ومصيرنا المشترك
لا زال معتنقي الأديان المتعصبين، على سبيل المثال، يجمعهم الله وتفرقهم هوياتهم العقائدية! لكنهم يبررون كل هذه القسوة كقربة إلى الله. إنها حالة فرز وانتقائية وإقصاء، تجري فيها عملية استبعاد وتفضيل صورة على أخرى. فالصورة التي أراها مخالفة للمثال خاصتي تغدو مزيفة. إن هذه الصورة، التي تم استبعادها قسرًا، هي فرادة أخرى وإمكان آخر وتنوع آخر. لكنّ مثالي لا يقبلها، فمن هنا يتم استعدائها والركون إلى صورة منتقاة، بسبب الكسل الفكري والتوارث والغرق في كليات وشعارات عامّة.
إن خداع الهوية لهو أكبر مكيدة وقع بها الكائن البشريّ، ذلك أن الهوية تعني مطابقة الواقع؛ فهويتي الدينية، السياسية، القبلية، مطابقة للواقع، فإذا كانت مطابقة للواقع فهويات الغير مزيّفة تمامًا.
تشرع الهوية من هذا المنطلق إلى تصنيف الواقع طبقًا لمعطياتها "اليقينية"، لماذا؟ لأن هويتي مطابقة للواقع تمامًا، فهي تصنيف الآخرين انطلاقًا من هذه المطابقة. التسارع المستمر لحركة الفكر يستلزم مسايرته عبر المراجعات النقدية المستمرة للهوية لكي لا تتحول ذواتنا إلى قطع أثرية ونقاط مرجعية تحرك فينا بهجة الخمول والكسل!
إن التسارع الهائل لحركة الفكر لهو تدمير عنيف لعالم الهويات المزيّف، واختراق لكل من يقف أمام هذا الفيضان المتسارع، فعلينا التفتيش والبحث والتقصّي لكيلا نتحول إلى كائنات هوياتية ميتة. حينما تتحول أفكارنا إلى صور ثابتة فهي تشبه الصورة الفوتوغرافية؛ جميلة، جذّابة، حميمية، دفق من الذكريات، لكنها متخشبة ساكنة ولا تتغير؛ إنها تحتفظ لنا عن صورنا الماضية، بينما نحن نكبر ونبلغ وننضج. فيغدو العالم، من هذه الناحية كما الصورة الفوتوغرافية الجامدة.
العالم غارق في الكثرة والتنوع والاختلاف، فمن المفارقة أن نحيله إلى صورة جامدة ونتحول إلى سلطة قمعية، سواء أدركنا ذلك أم لا
الانغلاق على الصورة الفكرية يماثل قصّة الصورة الفوتوغرافية. فعلينا التأسّي بشريط السينما بدلًا من الصورة الثابتة؛ فشريط السينما، حسب مثال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، تنطبع عليه الصور وهي تتحرك بسرعة لتنتج لنا أحداثًا مختلفة ومتميّزة. وعلى الرغم من ترابط الأحداث في شريط السينما، إلّا أنها تتميز فيما بينها باختلاف وفرادة. ذلك إن الترابط فيما بينها لم يحيلها إلى كتلة واحدة، إنها وحدة وجود؛ فالشريط هو الصور، والصور هي الشريط، يتّحدان فينتجان حدثًا. وذلك الحدث ينتج لنا فرادات ولقطات متمايزة كل منها يمثل حدثه الخاص دون أن يذوب في الآخر. فحياتنا من هذه الناحية أشبه بهذا الشريط. وما أجمل أن تغدو حياتنا أحداثًا متسارعة تبدع لنا لحظاتها الخاصّة والمتميزة والفردية. العالم غارق في الكثرة والتنوع والاختلاف، فمن المفارقة أن نحيله إلى صورة جامدة ونتحول إلى سلطة قمعية، سواء أدركنا ذلك أم لا.
اقرأ/ي أيضًا: