دائمًا ما نسمع عبارة "أعداء المذهب" عند كل سجال يحدث بين المتدينين وخصومهم. ويبدو أن صيغة العداء المتفق عليها عند الكثير من المتدينين هي التهكم على الدين، والتشكيك في بعض الأصول التاريخية، أو معارضة الأداء السياسي للتنظيمات الإسلامية. وعلى أثر ذلك، سنشهد ردود أفعال هستيرية تندّد بالتجاوز على "الخطوط الحمراء"، وبالطبع من غير أن ننسى أن البعض من هؤلاء يترجمون حالة الإحباط التي يتعايشونها، وليس بالضرورة تتملكهم نية حقيقية لنقد الخطاب الديني من أجل الإصلاح. لكن كل هذا لا يبرّر هذا السكوت المريب عن الغلاة الذين يظهرون بين فترة وأخرى وتنتشر فديوهاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
القبيلة في العراق هي الثقافة المهيمنة وهي التي تشكل البنية التحتية لتفكير وسلوك معظم العراقيين
وأنا شخصيًا استمعت للكثير من هذا الهراء الذي يبثّه جهلة المنبر. ولا أدري إن كانت هذه التصرفات عن جهل أو عمد، حيث السكوت المريب، كما قلنا، يجعل المرء في حيرة من أمره. فهل يُعقل أن هؤلاء الجهلة اندرجوا في عداد الخطوط الحمراء التي ازداد عددها في السنين الأخيرة، ولم نعد نفرّق بين الجرباء والصحيحة. وإلا ما معنى السكوت عن هذا الغلو الذي تشهده بعض المنابر الدينية، هل نحن إزاء "دين" جديد يشرف عليه جهلة المنابر وبعض "الرواديد" والشعراء المتحمسين؟ في الشهر الفائت على سبيل المثال، انتشر فيديو لقصيدة "لطمية" على مواقع التواصل الاجتماعي يتفوّه فيه أحد الغلاة بألوهية الإمام علي بن أبي طالب في قصيدة "لطمية" يحضرها الكثير من الشباب ويتفاعلون معها بحماس ملحوظ، وتضع علي بن أبي طالب في مقام الله، والأمر كان في عداد المألوف!
اقرأ/ي أيضًا: الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟
يبدو أن هذه الفئات قد تمثلت ثقافتها بشكل أصيل، وأعني هنا بالتحديد أدبيات الحماس القبلي التي تسقط كل صفاة المديح والثناء المبالغ فيها لزعيم قبيلتها. إذ لو تتبعنا صيغ الإفراط والتفريط التي يتفوّه بها بعض هؤلاء لوجدنا معظمها يحيل إلى أدبيات القبيلة. وأذكر في هذا الصدد حادثة غريبة جرت على لسان أحد الشعراء وهو يعاتب الله على وفاة زعيم قبيلته إذ يقول ما مضمونه "كيف تميت جارك وأنت من أوصيت بسابع جار!"، وهي إشارة إلى اسم زعيم العشيرة "جار الله"! في أدبيات القبيلة تنتشر ثقافة التفاخر والتغالب والمبالغة والغلو في تقييم الذات (إذا بلغ الفطام لنا صبي، تخر له الجبابر ساجدينا) والدفاع المستميت عن هوية الجماعة حتى لو كان على حساب حياته. ومن سوء حظ العراق، كما أكدنا ذلك مرارًا، أنه اجتمعت فيه قيم المذهب والقبيلة ليخرج لنا بهذه التركيبة المعقّدة.
لو تتبعنا خارطة التشيع في العالم وبالخصوص في إيران وأذربيجان وغيرها من المناطق ذات التواجد الشيعي، لم نعثر ربما على هذا الكم المبالغ فيه بالغلو. فهي من جهة شعوب مستقرّة أدمجت هوياتها الفرعية في قبضة الدولة ومؤسساتها، ومن جهة أخرى التركيبة الاجتماعية وأرثها الثقافي يلعبان دورًا جوهريًا في بناء شخصية الفرد؛ فالفرد في نهاية المطاف هو نتاج لثقافته وبالطبع يتفاوت الأفراد فيما بينهم حسب درجة تمثّلهم لهذه الثقافة. على ألا نفهم هذه الحقيقة باعتبارها حتمية لا مفرّ منها؛ فلدى الإنسان ما يكفي من الحرية للبحث عن كينونته الأصيلة التي يراها مناسبة لتطلعّاته. المهم، لماذا شيعة العراق يختلفون عن غيرهم؟ أعتقد لم يعد الجواب خافيًا؛ فالمدونة الثقافية هي الإجابة الأكثر واقعية، ذلك أنها تحدد لنا، بحسب لائحة الإرشادات التي تضم جميع القيم المعمول بها، بشكل عام مجمل الأفكار والسلوكيات التي هي في نهاية المطاف نتاج لهذه الثقافة، وهذه الأخيرة أعني بها بالضبط ثقافة القبيلة. القبيلة في العراق هي الثقافة المهيمنة، هي ذاكرتنا التي تتسع لكثير من العراقيين، وهي التي تشكل البنية التحتية لتفكير وسلوك معظم العراقيين.
لكن لماذا نذهب خارج الحدود، إذ يمكننا أن نعقد مقارنة سريعة من داخل السياق الثقافي نفسه، بين الحواضر المدنية التي تقطنها العوائل الشيعية، وبين المناطق الطرفية التي تشمل المحافظات ذات التركيبة العشائرية، والأحياء الشعبية الفقيرة التي ترجع أصولها لهذه المحافظات، سنعثر عمومًا على عيّنات مختلفة بين هذه المناطق؛ فعلى سبيل المثل وليس الحصر، من النادر العثور على ظاهرة الغلو في حواضر شيعية متمدنة مثل الكاظمية والعطيفية، بل حتى في محافظات الفرات الأوسط، مثل النجف وكربلاء، فأغلب الظن، ستٌجابه هذه الظاهرة بالتنديد والرفض نظرًا لحساسية الموقف في هاتين المحافظتين تحديدًا. نعم، ثمة حماس عقائدي يتغلغل في وجدات الجماهير الشيعية في العاشر من محرم، لكنّه لا يصل لمرحلة الغلو وتأليه الأئمة. كلما اتجهت بوصلتنا نحو الأطراف سنعثر على نماذج من الغلو ليست بالقليلة وهذا ما توثقه الفيديوهات المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي.
لا ننكر وجود ظاهرة الغلو عند الجمهور العقائدي، خصوصًا إذا كانت تدعمه بعض النصوص الدينية، أو على أقل تقدير التفسير المشوّه الذي يدعمه المخيال الشعبي. لكنّه لا يقلل من قيمة هذا الاستنتاج: إن جمهور الأحياء الشعبية الفقيرة الذي يتحكم به الفقر والقيم العشائرية، يحاول جاهدًا رسم الدين أو المذهب على صورته، فتظهر الطقوس وبعض "المحاضرات" المنبرية بنسخ مشوهة تعكس الحالة الاجتماعية التي يتعايشها هؤلاء الفقراء. وبالتالي نحن أمام صورة مروّعة وهي اجتماع الفقر والأمية والقيم العشائرية في مركب واحد لينتج لنا ظاهرة الغلو. لكن لماذا هذا السكوت عن هذه الظاهرة المشينة بعد أن امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي، فيا ترى من هم "أعداء المذهب"؟
اقرأ/ي أيضًا: