يبدو متفقًا عليه بأن الانتخابات هي الوسيلة الدستورية والقانونية الوحيدة لتداول سلمي للسلطة في أي بلد، وأن أي حديث خارج هذا السياق يعتمد العنف أو القوة كسلم للتغيير، هو الهراء بعينه ليس لعدم واقعيته فحسب، بل لضخامة تكلفته المادية والمعنوية وآثاره السلبية الكبيرة على الدول والمجتمعات المستقرة أساسًا لا دولة ومجتمع لم يعرفا الاستقرار منذ 41 عامًا كالعراق! غير أن وصول البلاد لطريق مسدود سياسيًا واجتماعيًا بعد 18 عامًا من التغيير يضطرنا لإعادة طرح أسئلة مهمة، منها مدى قدرة النظام الانتخابي في العراق على إنتاج تغيير سياسي مطلوب مجتمعيًا، وهل نتائج الانتخابات العراقية معبرة فعلًا عن إرادة مختلف الفئات المجتمعية في البلاد، وفي مقدمتها محدودي الدخل والشباب.
إن انتخابات مثل التي في العراق لا يمكن عدها إلا شكلية يعاد فيها تدوير ذات القوى التقليدية بوجوه جديدة
قبل الإجابة على هذه التساؤلات ينبغي الإشارة لحقيقة واقعية وهي وصول المواطن العادي لقناعة تامة بعدم جدوى المشاركة في أية انتخابات لإحداث تغيير نحو الأفضل في حاضر البلاد ومستقبلها، ومرد ذلك، يعود لاعتبارات عديدة منها حداثة عهد العراقيين بالتجربة الانتخابية، وآلية اختيار المحكوم للحاكم سلميًا وديمقراطيًا، والذي يتطلب ممارسة وجهدًا ووعيًا ومسؤولية. ويبدو أن كثير من العراقيين ممن تعودوا على أن مصير السلطة تحددها نخبة عسكرية أو سياسية دون أن يكون لهم دور بهذا الشأن إلا تلقى خبره صباحًا من أثير الإذاعة أو شاشة التلفزيون بعنوان البيان رقم (1) لا يريدون تحمل هذا العبء، غير أن من الإجحاف اختزال عدم ثقة المواطن بالانتخابات بما سبق ذكره فحسب، وهو ما يقودنا للإجابة على الأسئلة المطروحة، فالموقف السلبي ينطوي على الكثير من ردود الفعل تجاه خيبات الأمل المتكررة منذ العام 2005، والتي خرج فيها العراقيون للانتخاب متحدين بشجاعة تهديدات الجماعات المسلحة آنذاك وصولًا للحظة الانعطافة الخطيرة في مسار التجربة الديمقراطية العراقية في العام 2010 عندما أسهم التفسير المسيس لمفهوم الكتلة الأكبر من طرف المحكمة الاتحادية العليا بسلب إرادة الشارع وربط آلية اختيار رئيس الحكومة بالتوافقات السياسية، وشراء الذمم الحزبية الخاضعة بدورها للأجندات الخارجية في مصادرة واضحة لصوت الشارع، لا بل وضربه بعرض الحائط، قبل أن يتكرر ذات الأمر بعد أربع سنوات عندما تبوأ مرشح حائز على 750 صوت فقط على منصب رئيس الحكومة! بعد بلوغه العتبة البرلمانية بالأصوات الزائدة لزعيم كتلته السياسية وصولًا لانتخابات 2018، والتي شهدت مقاطعة شعبية كبيرة قدرت بـ 80٪ من أعداد الناخبين المحدثين، والتي جاءت نتيجتها الأغرب في تاريخ الانتخابات بالعالم حيث يجهل العراقيون ولغاية يومنا هوية قائمة الكتلة الأكبر فيها بعد تبخر طلب البرلمان المعنون لرئاسة المحكمة الاتحادية بهذا الشأن لتختار التوافقات السياسية شخصية غير مرشحة أصلًا في الانتخابات كمرشح وسطي لتبوأ منصب رئيس الحكومة!
اقرأ/ي أيضًا: وماذا بعد مقاطعة الانتخابات؟
لذا يبدو اندلاع انتفاضة تشرين بعد عام فقط رد فعل طبيعي، ومتوقع على مهزلة كهذه، حيث لم تنتبه الكتل السياسية لجرس الإنذار الذي قرعته انتخابات 2018، وبعد هذا السرد السريع لك أن تتخيل عزيزي القارئ كيف لانتخابات يتمّ التلاعب فيها بإرادة الشارع وأصوات الناخبين بهذا الشكل أن لا تتعرض لفقدان ثقة الناخب بها!
وبالعودة لتشرين 2019 حيث التهديد الجدي الأكبر لسلطة المحاصصة عندما رفعت جموع الشباب الغاضب علنًا، ولأول مرة مطلب التغيير الجذري، أما صراحة بشعار الشعب يريد إسقاط النظام أو مجازًا تحت مسمى رحيل جميع الطبقة السياسية، قبل أن تقزم بمطالب إقرار قوانين للانتخابات والمفوضية ناهيك عن انتخابات مبكرة، والتي على الرغم من أهميتها إلا أن البصمة الحزبية كانت حاضرة في عملية إدراجها بالمطالب، ودون أن يكون الشارع المحتج مهيأ لها فعلًا غير أنها وإنصافًا بدت حينها كأنها طوق النجاة للحركة الاحتجاجية في ظل عدم القدرة الواضحة على تحقيق سقف المطالب المرتفعة للشارع بسبب عدم وجود بديل مناسب وجاهز وافتقاد المحتجين للتنظيم السياسي، ومراوحتهم بين المراهقة الثورية وحب الزعامة (المرض الوراثي في الشخصية العراقية) وقبل ذلك كله، اتضاح حقيقة وجود عدم ممانعة إقليمية وضوء أخضر دولي لبقاء هذه السلطة المدعومة من دول الجوار والمجتمع الدولي، لذا بدت الفرصة مناسبة لأحزاب السلطة لاختراق الحراك الاحتجاجي وامتصاص زخمه أما بالمماطلة والتسويف أو بتصفية الحسابات السياسية، وبنهاية المطاف تطويعه بإدخاله في العملية الانتخابية بسبب أن طبيعة الأنظمة القائمة على فلسفة المحاصصة كتلك الموجودة في العراق ولبنان ممن تفترض تقسيم المجتمع لمجموعة مكونات تحتكر أحزاب معينة تمثيلها لا مكان فيها للمعارضة الحقيقية من خارج منظومة المحاصصة حيث ينظر للسلطة على أنها كعكة يتم تقسيمها بين فرقاء السياسة من ممثلي المكونات!
إن ديمقراطية كهذه لا وصف لها سوى بالمشوهة وانتخابات كتلك لا يمكن عدها إلا شكلية يعاد فيها تدوير ذات القوى التقليدية بوجوه جديدة بلا أي تغيير ملموس في البرامج والسياسات دون أن ننسى أو نتناسى حقيقة أن التصويت فيها يتم استنادًا لرأي رجل الدين أو مصالح شيخ العشيرة في الغالب (لتكون الحصيلة ديمقراطية طقوسية أو ديمقراطية قطيع لا ديمقراطية سياسية مدنية حضارية أو ديمقراطية الفرد الحر المستقل) واقتبس ذلك عن كلمات للمفكرغالب الشابندر في كتابه (الارتقاء بالعشيرة العراقية) ومن الطرفة، أن يراد لتشرين أن تكون شاهد زور على هذا الكم الهائل من الزيف والقبح.
إن ما ينتظر القوى السياسية الناشئة عن تشرين هي مسؤولية تاريخية تفترض المهام الجسام حيث تقتضي أولًا صياغة هوية للبلاد، وإعادة بعث الروح في مفهوم الأمة العراقية، والتأكيد على هوية الدولة العلمانية ووضع خارطة طريق ومشروع سياسي اقتصادي اجتماعي جديد للبلاد (باعتبارها مركز الثقل الرئيسي للمعارضة الشعبية) ليكون عنوانًا للمرحلة المقبلة، لا أن تركز فقط على النزول للشارع والذي فقد كوسيلة احتجاجية أي تأثير له وأصبح بمثابة كماشة لاصطياد أكبر عدد ممكن من الشباب والإيقاع بهم قتلًا أو اعتقالًا، أو أن تضيع في دوامة الجدل حول جدوى المشاركة في الانتخابات من عدمها، إذ أن الطريق لا يزال طويلًا بالنسبة لقوى تشرين اليافعة والقليلة الخبرة بالشأن السياسي لكي تكون مؤثرة في نتيجتها، وهو ما يوجب عليها وضع نصب أعينها على مسؤوليتها التاريخية آنفة الذكر وصولًا لانتخابات 2025 كخطة طويلة الأمد والعمل تدريجيًا على تنفيذها، والحاجة هنا لعاملي الوقت والتخطيط ماسة، لا الاكتفاء بالمقاطعة كرد فعل مؤقت أو أن تكون الأولوية لهدف قصير الأمد أفضل ما يمكن أن يتمخض عنه هو وصول بضعة أفراد لقبة البرلمان دون أن يكون لصوتهم أي تأثير أو أثر إيجابي ملموس على أرض الواقع وهي تجربة سبق وأن برهنت فشلها الذريع!
اقرأ/ي أيضًا: