أحكمت المحاصصة الطائفية قبضتها على الواقع السياسي في العراق منذ 15 عامًا، فسيطرت على جميع مؤسسات الدولة. إذ لا يدخل مسؤول في هذا النظام ما لم يكن حاملًا لهويته الطائفية على يمينه، وهوية حزبه الذي يطرح نفسه كمدافع عن الطائفة على يساره.
ماتت الدولة العراقية بمؤسساتها التقليدية، واستبدلت بدولة الطوائف؛ هذه الوزارة سنية وتلك شيعية وأخرى كردية
كانت المكوّنات العراقية بالنسبة للداخلين مع أمريكا للعراق بعد 2003، كأنهم أيتام تركهم الوالد المستبد، ولابد أن توزع تركته عليهم بحسب ما تقتضيه التضاريس المذهبية والقومية، لا أن تبنى لهم دولة وطنية، تعالج الأمراض التي تركها الاستبداد بمآلاته الخطيرة، والتي لا يزال العراقيون يعانون منها ويعيشون تحدياتها حتى هذه اللحظة.
ماتت الدولة العراقية بمؤسساتها التقليدية، واستبدلت بدولة الطوائف؛ هذه الوزارة سنية وتلك شيعية وأخرى كردية، ويُطبق هذا المثال، من مدير المدرسة، إلى ضابط الجيش، كل بحسب انتمائه. وتحوّلت هذه الدولة إلى أكثر الدول فسادًا بحسب الإحصائيات الرسمية المعلنة، إذ شرّع فيها الفساد الطائفي بطريقة غير مسبوقة، خاصّة وأن الأموال أطلقت بعد حصار فرضته الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من 12 عامًا، وكانت كل طائفة وما يتشقق عنها من جماعات تمتلك القوة والسلاح، تحاول أن تعوّض الحرمان، وأن تسيطر على أكبر قدر ممكن من الأموال قبل أن تسيطر عليها الطائفة الأخرى. خاصّة وأنها ثروات لا يسأل عنها أحد، وليس هناك مسؤولية عامّة عنها، حيث تتوزع المسؤولية الوطنية على الطوائف، وكل طائفة منهم تبحث عما يتعلّق بها فقط.
لم يكن للعراقيين رأي في المحاصصة حين تشكّل النظام عليها، فإضافة إلى الهيمنة الأمريكية، كان العراقيون خرجوا من الاستبداد والحرمان والانهيار الاقتصادي، فضلًا عن التمييز الطائفي الذي فرضه صدام حسين في مؤسساته وهذا له إسقاطاته على وعي المجتمع، مع الفوضى التي خلقتها حالة ما بعد 2003. والأهم أن النخبة التي حكمت العراق بوعيها الذي لم يكن عابرًا للطائفة أو سلوكياتها، عملت على استحضار الغبن الطائفي، وبناء حدود ثقافية منفصلة عن الآخر وهذا ما يشير إلى أن معارضتهم لصدام حسين لم تكن وطنية لأنه مستبد، إنما طائفية، تتعلّق بفرض الهوية المذهبية، وهذه هي حالة الصراع التي خلقتها أزمة الهوية السياسية في العراق، إذ يحاول كل قوي أو ماسك للسلطة أن يفرض الهوية التي يؤمن بها أو ينتمي لها، دون الاهتمام بالهوية الوطنية أو خلق مجتمع سياسي متعلق بالدولة، لا بالهويات الثانوية.
اقرأ/ي أيضًا: عراق "المحاصصة" الطائفية وسلطة ضد الدولة
لكن استمرار الانحطاط بأشكاله المريرة على الواقع العراقي بعد 2003، وتنامي الفساد الطائفي، وانعدام الخدمات، أدى إلى نشوء شباب واعٍ، يعتقد أن السبب فيما يحدث له، لم يكن إلا نتيجة طبيعية لحكم المحاصصة. فظهرت الحركة الاحتجاجية في 2011 مستمرة حتى 2015 تنادي ضد المحاصصة، وتطالب باستبدالها بحكومة كفاءات وطنية، خارجة عن هذه المعادلة الضيقة، ليلتحق زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، يشارك المتظاهرين بهذا المطلب، ويعمل على إنهاء المحاصصة في الاحتجاجات المستمرة منذ ثلاثة أعوام.
جاءت انتخابات أيار/مايو 2018، وكانت العيون تترقب الصدر، الذي حصل وللمفاجأة على المركز الأول في الانتخابات، وهذا ما خلق آمالًا لدى جميع الذين يؤمنون بحل الدولة الوطنية. لكن اليوم وبحسب المعطيات والاتفاقات التي نراها فما يتعلق بتشكيل الكتلة الكبرى، حتى الصدر سيعود إلى معادلة المحاصصة، بعدما رأى على ما يبدو أنها أقوى منه، وأنه إذا استمر في الوقوف ضدها ستفقده حتى امتيازاته بعد حصوله على 54 مقعدًا في نتائج الانتخابت.
لم يكن للعراقيين رأي في المحاصصة حين تشكّل النظام عليها، فإضافة إلى الهيمنة الأمريكية، كان العراقيون خرجوا من الاستبداد والحرمان والانهيار الاقتصادي، فضلًا عن التمييز الطائفي
صحيح إن خيار المعارضة البرلمانية كحل بديل عن الدخول بالمحاصصة لا يزال مطروحًا وهو أكثر شرفًا من مناصب المحاصصة، لكن تحالف "سائرون" بوصفه الفائز الأول لا يخاطر في الدخول إليها، لأن عقدة المنتصر ونشوته ستتحكمان به، وأنه لأول مرة يحصل على المركز الأول في نتائج الانتخابات. إضافة إلى أن الوعي بالديمقراطية وممارساتها لا يزال شبه غائب عند الأحزاب في العراق، ولا توجد غير الثقافة السلطوية، والمحاولات الدائمة للإمساك بالسلطة وحيازة النفوذ فيها.
يبدو أن الكتل الفائزة والتي ستشكل بدورها الكتلة الأكبر، وفي عملية التفاف على الشعارات التي طرحوها بالضد من المحاصصة، سيلجأون إلى خيار "التكنوقراط السياسي" وليس المستقل، وهو ما طرحه تيّار الحكمة الرافض لحكومة المستقلين أيضًا. وهنا إعادة إنتاج لعملية المحاصصة، فالحكومات السابقة كلها كانت تحتوي على نفس النموذج لكن بعنوان المحاصصة الأبرز، وفي الدورة المقبلة ستبقى ذات العملية، لكن بعنوان مطاطي اسمه "التكنوقراط السياسي" الذي يدخل السياسي فيه بانتمائه الكردي أو السني أو الشيعي إلى الحكومة!
ربما ستنتصر الإرادتان الأميركية والإيرانية ومعهما إرادة الأحزاب في الحفاظ على عملية المحاصصة، لكن الأحزاب لا تدرك أن حكومة المحاصصة "الفاشلة" بالتجربة العراقية والعربية، لبنان مثالًا، ربما ستخلق الانسداد النهائي بين النظام والشعب، وهي لحظة ستبعث على الندم لدى الجميع، وهو ما لا ينفع وقتذاك.
اقرأ/ي أيضًا:
مقاطعة الانتخابات العراقية.. مواجهة سلمية ضد محاصصة ما بعد الغزو الأمريكي