منذ بدء أزمة ارتفاع الدولار في السوق، تأخرت الحكومة في إعلان "وربما معرفة" أسبابها الحقيقية، حيث أنّ الدعاية التي تم تداولها في الأيام الأولى من قبل القوى السياسية المحيطة بالحكومة، وبعض المختصين بالاقتصاد المقربين منها، كانت تردد جملة واحدة وهي أنّ "الدولار غير متوفر نتيجة تقليل واشنطن الدفعات المالية المرسلة إلى العراق"، وبالتالي؛ فإنّ الطلب أصبح أكبر من العرض ما أدى لارتفاع الدولار.
عمليات الشراء والطلبات غير الشرعيّة أصبح منفذها الوحيد هو السوق الموازي
إلا أنّ هذا التفسير سرعان ما تفكّك، وظهرت الحقيقة التي تقول إن المشكلة ليست في المعروض من الدولار بل بـ"الطلب المشبوه"، فالدولار متوفر وبكثرة، ولكن أن من يمتلك الدولار، وهي "الحكومة" أصبحت تحت المراقبة التي تجبرها بأن لا تضع دولارًا إلا في موضعه، ما أدى إلى إغلاق نافذة بيع العملة على من يجب أن لا يحصلوا على الدولار.
بالمقابل، أصبح هؤلاء الذين "يجب أن لا يحصلوا على الدولار"، وهم بالضرورة أصحاب أعمال ضخمة "غير شرعية" بحسب اعتراف الحكومة فيما بعد، وبالتالي فهم بالضرورة يمتلكون سيولة ضخمة من الدينار العراقي، أصبحوا يشترون الدولار من السوق الموازي، وكما أي شيء آخر وفق أبجديات الاقتصاد، كلما كان هنالك من يدفع أكثر في سلعة ما، ويمتلك الأموال الكافية والضخمة لدفع "الدينار"، كلما سترتفع قيمة السلعة المطلوبة "الدولار".
وعقب انكشاف هذه المعادلة بشكل جلي، بدأت الحكومة متمثلة برئيسها محمد شياع السوداني تكرر في كل مناسبة، التأكيد على توفر الدولار بسعره الرسمي لجميع الطلبات "الشرعيّة".
من هنا، فإنّ عمليات الشراء والطلبات غير الشرعيّة، أصبح منفذها الوحيد هو السوق الموازي، وبالتالي يجب على كل من هو "شرعي" من التاجر وحتى المواطن، أن لا يقلق، لأن الدولار متاح له بالسعر الرسمي في البنك المركزي وبتسهيلات كبيرة، بالتالي، فإنّ سعر الدولار في السوق حتى لو وصل إلى 200 ألف دينار لكل 100 دولار، فيجب أن تكون الحكومة والمواطن وأصحاب التجارة الشرعية رابحين وسعيدين، لأنّ سعر السوق المرتفع سينهك أصحاب الأعمال "غير الشرعية" وحدهم، والذين لا يسمح لهم بشراء الدولار من البنك المركزي بالسعر الرسمي، وهذا هو المطلوب.
من هنا، فإنّ خطوة الحكومة بتخفيض سعر الصرف بشكل مفاجئ، رغم تأكيدها واعترافها أن الدولار المرتفع في السوق هو حصة "غير الشرعيين"، أما السعر الحقيقي للتجارة وتلبية المتطلبات متوفر بسعر منخفض، لا تفهم سوى بأنها إنقاذ لمالكي السيولة المالية الكبيرة من الدينار وأصحاب العمليات غير الشرعية، وستتيح لهم شراء كميات أكبر من الدولار، حيث أن خطوة التخفيض إلى 1320 دينارًا للمستهلك النهائي، ستنجح بتقليل أسعار الدولار في السوق الموازي، ولكن إلى مستوى قد يحوم حول الـ1400 دينار لكل دولار تقريبًا، وسيعود أصحاب الأعمال غير الشرعية الذين يمتلكون كميات هائلة من الدينار، لشراء الدولار من السوق بهذا السعر.
ما يعني، أنّ خطوة السوداني أتاحت من جديد لأصحاب الأعمال غير الشرعية شراء الدولار بالسعر الذي كانوا يشترون به من نافذة البنك المركزي "في الأيام الخوالي" أو أقل من ذلك بكثير، قبل أن يتم إغلاقها عليهم وحرمانهم منها، فاليوم من كان يأتي إلى مكاتب الصيرفة والبورصات بـ"بلوكات" من الدينار العراقي ليشترون قرابة 100 مليون دولار من السوق الموازي في عموم العراق وفق الأسعار المرتفعة التي تجاوز الـ170 ألف دينار لكل دولار، وكانت تكلفهم هذه العملية 170 مليار دينار عراقي، فاليوم سيحصلون بنفس هذا المبلغ على أكثر من 120 مليون دولار يوميًا بدلًا من 100 مليون دولار، أي كميات أكبر من الدولار بنفس المبالغ التي كانوا يدفعونها في السوق.