كثيرًا ما أكتب في انتقاد الأيديولوجيا، من منطلق ضربها الحرية الفكرية بمقتل، فالعقل الأيديولوجي ليس حرًّا بشكل كامل، لأنه مضطر إلى التحرّك داخل دائرة محدَّدة من المسلّمات، وبالتالي هو مضطر إلى تبييض كل نقطة سوداء في عقيدته التي يؤمن بها، وتبرير أي كارثة يتسبّب بها تطبيق هذه العقيدة. والأيديولوجيا التي أقصدها هنا، هي مجموعة الأفكار التي تنتظم داخل نظرية يسعى تشكيل سياسي ما إلى تطبيقها بحَرفيَّة، فتتحول إلى عقيدة لا ينالها الشك وتكون فوق المسائلة.
العثة التي تنخر بجسدنا السياسي هي أن هذا الجسد ليس سياسيًا والسبب أننا نتدين على الطريقة الحزبية ونتحزَّب على الطريقة الدينية
كان للبعث عقيدة ولم تزل، دافعوا عنها أيام كانوا مجرد ثلّة تطاردهم الحكومات، ثم طبَّقوها يوم حكموا باسمها، ومن يومها ومهما كان الخط البياني لكوارث تطبيقها يتصاعد، كان دفاعهم عنها يسبق هذا الخط صعودًا بخطوات. وحتى عندما تفرَّدت عقيدتهم بالسلطة وتعسفت بحق بقية الأحزاب، بل وحتى عندما استبدت بالحكم وتحوَّلت إلى دراكولا لا يشبع من الدماء، لم تخفت وتيرة دفاعهم. وأعْدِم دراكولا البعث بسبب أخطاء العقيدة، ويوشك البعث أن يُعدَم للسبب نفسه، والعقيدة ذاتها والسجن التي أحكمته على عقول البعثيين هو ذاته. ولأن مشكلة الأيديولوجيا واحدة، تجد بأن سيرة الأحزاب الحاكمة في عراق ما بعد البعث واحدة، فهي نسخة مكرّرة من سيرة حزب البعث.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا تحدث انتخابات في العراق؟
لدينا كوادر حزبية لا تعلم بأن عقيدتها تقع بالضد من الديمقراطية، لأنها عقيدة الحزب الواحد. هذه الكوادر واقعة تحت التضليل عندما تدافع عن الحزب باعتباره مثالًا للديمقراطية، ولدينا كوادر حزبية لا تعلم بأن عقيدتها تضرب الوطنية بالصميم، لأنها عقيدة عابرة للحدود، وهذه الكوادر وقعة بتضليل أشد عندما تستهجن تفريط غيرها بمصالح الوطن، غير واعية بأن تطبيق عقيدتها يؤدي إلى النتيجة نفسها، والتضليل نتيجة حتمية للعقيدة التي لا تتعرض للمسائلة.
هكذا تكون الأيديولوجيا الحزبية مُقَيّدة للعقل ومخرِّبة له، وخاصة الأيديولوجيا على طريقتنا الشرقية، فها هنا حيث البقعة التي أنتجت الأديان، ما من رمز سياسي إلا ويتم تحويله إلى نبي، وما من فكرة حزبية إلا ويتمّ تحويلها إلى كتاب مقدس.
ما أريد الوصول إليه، هو أن العثَّة التي تنخر بجسدنا السياسي، هي أن هذا الجسد ليس سياسيًّا، والسبب أننا نتدين على الطريقة الحزبية، ونتحزَّب على الطريقة الدينية. ولذلك، فمن الطبيعي أن الجماهير التي تتعرض لأشد أنواع الإذلال والفقر والتعسف، لا تستطيع أن تتحول إلى بوصلة تتحرك بالاستناد إلى مؤشرها ساسة البلد، ما مكّن هؤلاء الساسة من الاستمرار بلعب دور البوصلة.
المشهد باختصار عبارة عن جماهير ضائعة مقسّمة إلى كتل بشرية تسترشد كل كتلة منها بمؤشر بوصلة تعلم بأنها تقود إلى الجحيم. البطون الجائعة لا تستطيع أن تطالب بالخبز ما دامت مقتنعة بأن العقائد صالحة للأكل، وأن البرامج السياسية ليست موائدًا، بل مزارات للتبرُّك والدعاء، ومقار لطحن الكلمات ولوك الأفكار.
اقرأ/ي أيضًا: