في ساعات متأخرة من مساء الأول من تشرين الأول، كانت عربات "التكتك" تتجول في شوارع مدينة الصدر ومناطق شرقي العاصمة بغداد، لتشارك في نقل الإطارات إلى مجاميع من المتظاهرين تُستخدم عبر حرقها لقطع الطرق والتقاطعات أمام حركة المركبات. لم يكن سائق التكتك ـ الذي أصبح ناشطًا وطنيًا فيما بعد ـ يعلم ما ينتظره في قادم الأيام، قمع وتدمير، شهداء وجرحى يتناوبون على مقعد عربته الخلفي التي فقدها بعضهم بالحرق أو التكسير أو الرمي في مياه دجلة. مخاطر كبيرة وموت محدق سيواجهونه بشكل يومي خلال مهام إجلاء المصابين والمختنقين من أماكن الاشتباك، وشهرة عالمية، وجريدة مطبوعة من إنتاج ساحة التحرير باسمهم. كان "التكتك" هو أول الأبطال الذين سدوا الحاجة إلى سيارات الإسعاف التي لم تتمكن من إتمام مهمة إسعاف المصابين خلال الأسبوع الأول من الانتفاضة لشدة الاشتباك وعمليات الكر والفر في مناطق شارع فلسطين وقناة الجيش ومقتربات مدينة الصدر، ثم لإغلاق مداخل ساحات الاعتصام بعد العودة في 25 تشرين الأول.
كانت الحالة التشرينية مختلفة وفريدة، في مظلوميتها وبطولاتها وعفويتها وصمودها ووحشية قمعها، عن كل التظاهرات السابقة
لم نستفق من صدمة الأسبوع الأول بسهولة. لم يكن القمع جديدًا على الحكومة؛ لكن الطريقة والسياق الزمني كانا مختلفين عن الأحداث السابقة. الغضب الشبابي والخروج العفوي، والتوقيت، أي بعد حالة إحباط عامة وترسّخ المحاصصة وتقاسم المغانم وتزوير الانتخابات التي تلت الانتصار على تنظيم داعش، ثم القمع بواسطة القناصين وقطع خدمة الإنترنت وإرعاب الناشطين واقتحام مقار قنوات فضائية وترويعها، وصمود الشباب رغم قلة أعدادهم والتزام السلمية والاستعانة بالتكتك كمسعف وداعم لوجستي، فمحاصرتهم تدريجيًا حيًا بعد حيٍ حتى أنهوا الحركة الاحتجاجية قبل نهاية أسبوعها الأول، مع صمت دولي ومحلي. كانت الحالة التشرينية مختلفة وفريدة، في مظلوميتها وبطولاتها وعفويتها وصمودها ووحشية قمعها، عن كل التظاهرات السابقة. إن ما ميّزها هو تلك التفاصيل، وإلا فأنها لم تكن أكبر من احتجاجات سبقتها من حيث الحجم والتحشيد والاهتمام الإعلامي.
اقرأ/ي أيضًا: استذكار للضحايا ووعود بالعودة.. ناشطون يحيون الذكرى السنوية لانتفاضة تشرين
انطلقت الدعوات للتظاهر في الأول من تشرين لكنها لم تأخذ صدى واسعًا. لم يخطر ببال الكثيرين أنها ستكون البداية لحدث سيدونه التأريخ ويُكتب، وقد كُتِب عنه، المزيد عنه من التوثيق والتحليلات والمديح والتبجيل، وأُعتبر مفصلًا من مفاصل التأريخ العراقي الحديث.
كانت الأجواء مهيّئة للانفجار كبرميل بارودٍ انتظر أن ينفجر. وقد يَلحظ المراقبون تزايد حالات الانتحار بين فئة الشباب مكسوة بكئابة اجتماعية جماعية مما آلت إليه الأوضاع. حكومة تبدو الأضعف في العملية السياسية الوليدة. تظاهرات فئوية هنا وهناك. فضائح تُروى على المنابر الإعلامية عن بيع وشراء المناصب التنفيذية والتشريعية من قبل القوى السياسية التي وكأنها تُعلن بوقاحة انتصارها ليس على الإرهاب، بل على الشعب، وتثبيت الحكم الفاسد الأبدي بقوة المال والسلاح. اغتيالات متفرقة لمواطنين ومشاهير. ثم وقبل أن يحين الموعد، ارتكبت قوات مكافحة الشغب ـ التي سينزل صيتها إلى الحضيض ـ فعلًا شائنًا حين اعتدت على النساء من حملة الشهادات العليا قرب مقر عادل عبد المهدي. وفي ذات السياق الزمني أصدر الأخير قرارًا غبيًا آخر بإقصاء قائد عسكري له شعبيته الجارفة في الأوساط الاجتماعية كافة، عبد الوهاب الساعدي، الذي صار قائدًا لجهاز مكافحة الإرهاب بعد سقوط الحكومة.
تشابك العديد من العوامل لتنطلق الاحتجاجات التي "ربما" لم يكن ليُكتب لها التحول إلى انتفاضة حقيقية، خاصةً مع غياب التغطية الإعلامية العربية والدولية، وصمت القوى السياسية بغالبيتها العظمى، وتوجس فئات شعبية من محرّك هؤلاء الشباب، حتى أن المرجعية الدينية في النجف حثت في الخطبة الأولى بعد اندلاع الاحتجاجات القضاء على مكافحة الفساد، و"الحكومة" على تخفيف معاناة المواطنين والقيام بواجبتها بتحسين الخدمات وغيرها من المطالب المستنسخة، ثم عادت في الخطبة الثانية لتحمل الحكومة مسؤولية الدماء التي أريقت؛ لكنها طالبتها مرة أخرى بالإصلاح والتحقيق فيما جرى.
ما كان الحراك ـ من وجهة نظرنا ـ ليكون بهذا الشكل، والدليل، هو نوع خطاب المرجعية ووجهته، وهي التي تستشعر البوصلة خير استشعار كما حصل فيما بعد، ذلك لولا غباء الحكومة والقوى السياسية الداعمة لها، والتي اتخذت قرارًا بوأد التحرك الجماهيري في مهده، لتتحول الاحتجاجات المقموعة إلى انتفاضة بفعل الدماء المضرجة بأسلحة القناصين من جهة، ورصاصات وقنابل أجهزة الأمن المنفلتة من جهة أخرى، فعادت كبيرة وشعبية في 25 تشرين الأول لم تفلح محاولات منعها، فأرعبت الطبقة السياسية وأرغمت وسائل الإعلام العربية والدولية على تغطيتها، والدول المترددة على ثنائها.
كان أيقونة تشرين صفاء السراي، بمثابة مراسل مجاني من قلب الحدث في الجولة الأولى من الاحتجاجات، فضلًا عن كونه متظاهرًا، دائمًا، وشهيدًا حيًا فيما بعد
ساهم المتظاهرون بصمودهم ودمائهم، بتأبيد هذه الانتفاضة وتمييزها عن كل ما سبقها، ورسم الطريق إلى استمراريتها. كما ساهم الناشطون والصحفيون (المساندون على قلّتهم) بتغطيتهم، أثناء وبعد الأسبوع الأول من تشرين، بتوثيق ما حدث والتحشيد لما سيحدث، وقد نلنا في فريق "ألترا عراق" الذي انفرد في نشر الأخبار السريعة أثناء قطع خدمة الإنترنت، شرف المشاركة، رغم ما تعرض له الفريق، من مضايقات ومخاطر، وهو ما لا ينبغي ذكره استصغارًا له بالمقارنة مع من بذل روحه من أجل الوطن، فلقد كان أيقونة تشرين صفاء السراي، بمثابة مراسل مجاني من قلب الحدث معنا، ومع غيرنا، فضلًا عن كونه متظاهرًا، دائمًا، وشهيدًا حيًا فيما بعد.
والسلام على أرواح الشهداء ورحمة الله وبركاته.
اقرأ/ي أيضًا: