أثناء إجراء مقابلة معه كجزء من تحليل معمق لتقرير سياسي أشار إليه الصحفي المُعد للتقرير إلى أن "لا يذكر اسم الجهة بعينها، أن يتجنب أسماء شخوص لديهم مكانة سياسية وحزبية ويعتبرون قيادات لجهات مسلحة"، وهذا تحديدًا هو نواة المشكلة والخطر الذي يلوح في الأفق بالنسبة لنا، وما يواجهه كل يوم الكثير من الباحثين، والصحفيين، والمحللين السياسيين، داخل العراق وحتى خارجه، بالرغم من أن تعرضهم للخطر أقل مقارنة مع من هم في الداخل.
الكثير من الباحثين والصحفيين يمتنعون عن ذكر أسماء الأحزاب التي تمتلك جهات مسلحة عند الحديث بمشكلة تخصهم
كل من يعمل في مجال يتقاطع مع السياسة العراقية أو المتنفذين في النظام، ويتطلب ذكر المشكلات، والتطرق أثناء الكتابة أو الحديث والكشف عن رأيه، وذكر الأسباب والأطراف الفاعلة والمؤثرة والتي تلعب دورًا محوريًا في وجود المشكلة، والتوصل لحل، جميع هؤلاء داخل دائرة الإدانة والتخوين والتصفية بسبب رأي وكلمة، وإن كانوا ليسوا هم الهدف. إن الهدف هو نشر الخوف والرعب والفوضى بين الناس.
الانحياز للخوف
ما يتم العمل عليه من قبل المختصين، مهما كان التحليل مبني على أسس موضوعية وعلمية وأكاديمية، كل ذلك غير كافٍ. لا بد أن تبتعد عن تسمية الأشياء بأسماءها الصريحة الحقيقية، يفضل البقاء على نقطة من الانحياز نحو التكتم الخجول والخوف الواضح، كي لا تقع ضحية رأي عابر وتسمية صريحة ذكرتها ونسبت إليك، وأصبحت بمثابة الفخ الذي نصب من أجلك، وكأن رأيك أو التحليل الذي صرحت به سيكون مسموعًا أو يغير شيئًا من واقع السياسة الفاسدة المتجذرة في البلد، ومنظومة الفساد والتدمير الاجتماعي المستمر، أو توقف عرقلة التنمية، وتحطيم بناء الدولة والمجتمع التي تمارسها جهات وأطراف داخلية وخارجية، كل ذلك لن يغير شيئًا، المشكلة المستمرة ومتجذرة، كل تنظير نقوم بهِ هو تحصيل حاصل مقارنة مع رأس الهرم، وصناع السِلم والسَلام ممن يملكون أحقية القرار الأخير لليوم والغد.
الأرقام تتحدث
وبعد إجراء استطلاع رأي صوت عليه 45 باحثًا وإعلاميًا ومحللًا من كلا الجنسين، داخل وخارج العراق، كانت نتائج إجاباتهم تشير إلى أن 75% ممن هم داخل العراق امتنعوا عن ذكر أسماء جهات أو شخصيات لها انتماء سياسي لجهات مسلحة، بينما 20% ممن هم خارج العراق كان لهم نفس الرأي في التحفظ الصريح على ذكر الأسماء والجهات السياسية، فيما كانت النسبة الأكبر في حرية التطرق لكافة المسميات لمن لديهم وجهة مستقرة خارج العراق أو يقيمون في إقليم كردستان شمال العراق، معتبرين أن بإمكانهم تسمية الجهات السياسية والشخوص بأسماءها؛ بنسبة خطر أقل عن أقرانهم ممن يعيشون في جنوب العراق أو العاصمة بغداد.
اقرأ/ي أيضًا: ورطة الديمقراطية
وهذا يؤكد أن حرية التعبير داخل العراق أصبحت اليوم مهددة، وفي خطر أكثر من أي وقت مضى، مع ارتفاع وتيرة أعمال العنف والاعتداء والخطف والاختفاء القسري، والقتل العمد التي طالت صحفيين وباحثيين ومؤثرين في الشأن السياسي والاجتماعي داخل العراق، مما شكل ردود فعل سلبية لدى الأوساط العامة والفاعلة. وفي هذا السياق يكشف صحفي لي يعمل لصالح قناة فضائية لدى مكتب بغداد، عن اتباع القناة "إستراتيجية الحياد في نقل الأخبار وتغطيتها، وبالأخص من قبل العاملين في مكتب بغداد لكي لا تقع ضحية اعتداء على طاقمها أو تكسير لمعداتها".
مما لا شك فيه، أن المعطيات التي من حولنا تشير إلى واقع سوف تسيطر عليهِ جهة قوية وأخرى مستضعفة، مكونة طبقة ظالمة تستخدم السلطة والسلاح، وأخرى يمارس عليها الظلم بشتى أنواعه على مدار السنوات القادمة. وفي آخر المطاف أن الرأي، والفكرة، والتحليل، والرؤية المبنية على المعطيات العامة، والتوصيات المأخوذة من أرض الحدث لن تغير شيئًا من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذ أن جميع هذهِ الأعمال ما لم تؤخذ بعين الاعتبار، وتجد الآذان الصاغية من أصحاب السلطة والقرار والمجتمع لوضع آليات تنفيذ سليمة تحقق خدمة اجتماعية، ستبقى حبرًا على ورق.
والسؤال هنا؛ إن كانت الكلمة والرأي والفكرة الحرّة بمثابة حبل مشنقة حول رقبة كاتبها لماذا نكتب إذن؟! ولمن نكتب؟! سؤال لا أجد أي جواب له سوى إشارات تنبأ بمغادرة بيئة العمل التي نخوض غمارها بأقلامنا، مع من لا نعتبرهم ضمن الخصوم، لكنهم بقوة سلاحهم معتبرين وجودنا تهديدًا كبيرًا لبقاءهم، واستمرارنا هو معركتهم الخاسرة، فالكلمة والرأي هو خصمهم الوحيد الذي بموتنا تتولد براعم جديدة بأفكار جديدة وعزيمة جديدة.
نحن نكتب ليس تحديًا لأحد ولا إثباتًا لرأي، ولا الإصرار على موقف، نحن نكتب في سبيل بقاءنا فاعلين في بيئة تساهم بطردنا، ورغم كل شيء ما زلنا نشارك في توجيه أنظار الرأي العام والإشارة إلى القضايا الأكثر أهمية، والتحدي الأصعب الذي نخوضه اليوم هو الاستمرار بالمضي نحو غد مجهول الهوية على كافة الأصعدة.
اقرأ/ي أيضًا: