من أبرز الأمور التي أدّت إلى تهديم بنية الهويّة العراقية الموحدة بعد الغزو الأمريكي وظهور هويات فرعية مستفحلة هو انعدام الأمن الاجتماعي وغياب العدالة الاجتماعية. يشير مفهوم الأمن الاجتماعي إلى كفالة الدولة أمن المواطنين من الاعتداءات والأخطار التي تستهدفهم، أكانت من خارج البلاد أم من داخله.
يشير مفهوم الأمن الاجتماعي إلى كفالة الدولة أمن المواطنين من الاعتداءات والأخطار التي تستهدفهم، سواء كانت من خارج البلاد أم من داخلها
إن ضمان الأمن الاجتماعي للمواطن، يعد إلى حد كبير، ضمانة لحياة كريمة تشعر الفرد بالانتماء إلى هذا الوطن والولاء له، الأمر الذي يعني أنه ركن أساسي من أركان تشكيل المواطنة وأطر العيش المشترك التي ترتبط بالهويّة الوطنية. إن افتقاد الموطن أمنه الاجتماعي يدفع به إلى الاخلال بانتمائه وهويته الوطنية، أو على الأقل إلى أن يلوذ بهوياته الفرعية التي يُعتقد أنها يمكن أن تكون ضمانًا لأمنه.
اقرأ/ي أيضًا: مرثية العراق الحزينة.. هويتنا الضائعة
وهذا ما نشهده في الساحة العراقية الحالية، حيث كان لفقدان الأمن والأمان الأثر الأكبر لتفجير الانتماءات الأثنية أو المذهبية أو القبلية، بل وجعلها الهوية المعبرة عن الذات بدل الهوية الوطنية الكبرى، التي من أحدى مزاياها احتضان الجميع بداخلها.
لدينا تجارب واضحة وجليّة يمكننا الاستشهاد بها في قولنا هذا، فعام 2006 والحرب الأهلية التي قامت على أساس طائفي ليست بالبعيدة، حيث جرى تناحر لم يشهده العراق على مر تاريخه بين الطوائف والأديان، سحقت رحى الطائفية في هذا التناحر عشرات الآلاف من الشباب والأطفال والنساء بغير ذنب، سوى أنهم ينتمون لطائفة ما. وكان هذا كله تحت مرأى ومسمع الحكومة العراقية، التي كانت شرعيتها الوحيدة في حينها أنها أتت بدعم الولايات المتحدة، كذلك أن الأمريكيين الذين جاءوا "مُخلّصين" ووعدوا هذا الشعب بالرفاه والحرية والديمقراطية والمساواة، هذا الشعب المنهك بسبب حصارهم الذي دام لعشرة أعوام، وبسبب سياسات الاستبداد في ما قبل الاحتلال. ساعد الأمريكان على قيام هذه الحرب وتفجير هذه العصبيات بشتى الوسائل كما قلنا سابقًا.
كذلك غياب العدالة الاجتماعية الذي أدى إلى تفتيت النسيج الاجتماعي العراقي، وأيضًا كسر أواصر الثقة بين المواطن والدولة، حيث أصبحنا وبفضل أمريكا وإيران والتابعين لهاتين الدولتين ممن تسنّموا زمام الأمور داخل أروقة الحكومة، أصبحنا بفضلهم دولة اللاعدالة الاجتماعية. تعتبر العدالة الاجتماعية أحد أهم أطر العيش المشترك وعناصر بناء الهوية الوطنية التي تعتبر مظلة لجميع المواطنين. إن الاخلال بمبدأ العدالة الاجتماعية من خلال عدم تكافؤ الفرص، وغياب القانون أو ضعفه، وسيادة المحسوبية لطرف على حساب آخر، وامتيازات لطبقات وفئات معينة على حساب غيرها، كلها تصب في منحى إضعاف الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة. ومن بين ما تشمله العدالة الاجتماعية المساواة أمام القانون وتساوي الفرص في الوظائف. حيث إن من أساسيات العدالة الاجتماعية حقوق المواطنة أي أن يتساوى المواطنون في الفرص ومنها فرص التوظيف، وأن لا يتعرض كائن من كان منهم إلى الأقصاء والتهميش وفقًا لذلك المبدأ.
أي مهتم بالشأن العام ومتابع لكيفية أدارة الدولة سيكتشف وبسهولة أن الدولة العراقية عبارة عن دولة محسوبيات، حيث من غير الممكن أن ينتج نظام المحاصصة الطائفي دولة تحترم جميع مواطنيها وتنشر أسس العدالة بينهم. ومن المفارقات الفاضحة أن حتى من يدّعون تمسكهم بـ"مذهبهم وطائفتهم"، هم كاذبون، حيث أتخذوا هذا النمط من أنماط التديُّن "التديُّن الغرضي" لتنفيذ مخططاتهم وتوسيع نفوذهم الخاص لا خدمة أبناء الطائفة أو العرق الذين يدّعون وصلهم فيها كما أسلفنا سابقًا.
القوى السياسية المتحاصصة المتصارعة على السلطة والنفوذ والمال كانت على الدوام تستقوي بالقوى الخارجية، وتستعين بها لحفظ حصصها، وهذا أنتج دولة عراقية ضعيفة تُغري بالتجاوز على سيادتها واستقلالها، فالحكومة كانت على الدوام شبه مشلولة بفعل الصراعات والمنافسات على المناصب والامتيازات، وفي مقدمها امتيازات عقد الصفقات التي تدر أموالًا طائلة، فتسرّبت مئات مليارات الدولارات من موازنات التنمية إلى خزائن الأحزاب المتنفّذة، ومعظمها إسلامية، وإلى الحسابات الشخصية لقياداتها خارج العراق.
أدى غياب العدالة الاجتماعية إلى تفتيت النسيج الاجتماعي العراقي، وأيضًا كسر أواصر الثقة بين المواطن والدولة
إن انعدام الأمن الاجتماعي وغياب العدالة الاجتماعية واستشراء المحاصصة سيخلق نتيجة حتمية هنا بأن تتشظى الهوية الوطنية وتنمو عصبيات أخرى وتتحول هذه العصبيات إلى أطر للصراع الاجتماعي والسياسي.
اقرأ/ي أيضًا: