لا زالت أصداء أصوات الضحايا تتردد على من شاهدوا واقعة الدم في مطلع تشرين الأول 2019، لكن هذه الأصوات ستكتب تاريخًا جديدًا يختلف عن تبادل الأدوار بين الضحايا والجلادين عبر التاريخ البشري، وسيسجلون انتصارات في دخول المعجم السياسي العراقي الجديد كفاعل مهم في المعادلة التي تفتقد إلى الممارسة السياسية، وتقتصر على وجوه تتحكم بالمشهد لأكثر من عقد ونصف.
كانت انتفاضة تشرين عفوية وتفتقر إلى أي نظرية ثورية، فضلًا عن القيادة التي تنظمها وتشبعها بالرؤى، لكنها صارت العصارة الأرفع شأنًا والأثمن في فضاء العراق السياسي
الفاصل الزمني بين الجولة الأولى والثانية من الاحتجاجات 15 يومًا، لم يكتف خلالها شباب العراق بالبكاء على من سقطوا في الأيام الأولى بنيران القنّاص، وإن فعلوا ذلك واستذكروا الرعب أحيانًا، لكنهم أعادوا الآمال التي انعشها الخروج الأول وقذفه إلى مقدمة الأحداث السياسية. ولد لدينا الأمل الممكن، وبدلًا من الحديث عن "قناعة" بأن هذا الشعب كُتبت عليه الهزائم وإنه "ما تصيرله جارة"، صار الحديث عن خلاص العراق ممكنًا، وهو حديث ينطلق من المأساة التي تفرزها الثورات والانتفاضات عبر استعدادها لتقديم الشهداء، والوقوف بوجه التحديات الكبرى، وردود الفعل الداخلية والخارجية عليها.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: البحث عن ممكن
كان سقوط الشهداء في الأسبوع الأول من تشرين هو فعل رمزي، حيث أعلنوا بموتهم أن هذا الشعب لم يمت بعد، ولم يدفن في إطار الهويات الطائفية، كان موتهم هو بداية جديدة أشعلت انتفاضة لم يشهد العراق مثيلها بتاريخه.
ومن قعر المأساة التي ترويها صرخات الناس، يبرز السؤال عن الأسباب الملحة التي يرمي الشباب بأنفسهم للتهلكة من أجلها؟ يعلمون بالرصاص ويقفون أمامه، يشاهدون القنابل تهوي على الرؤوس، ولا يتراجعون، وهو أمر يشبه الانتحار، لكنه ـ أي الموت ـ ليس إدانة أخيرة لمرارة الحياة التي يعيشها الشباب، بل كان تقديسًا وإعلاءً لما يجب أن تكون عليه الحياة. إنه موت هادف وذو معنى تاريخي، حيث أن التضحية بالنفس ليست أمرًا مستحيلًا في سياقنا العراقي الذي يعيش مع المنون علاقةً مغلفةً بالرمزيات الدينية والما ورائية. كانت القضية التي وقفوا من أجلها، بنظرهم، تستحق الموت.
ولأن لكل وجه قصته، يعرض مشهدًا متداولًا ملامحًا مبتسمة لشاب كان وجهه ذا ملامح رقيقة، لكن دهر العراق مغروسًا على تفاصيلها بإتقان، كان يضحك، بينما "القنّاص" منشغلًا باصطياد الرؤوس، وكانت المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي وبعد عودة الإنترنت، تتساءل بمرارة عن سبب عدم اكتراث هذا الشاب بالنهاية، وكيف يحدق بوجه المنية بهذه الحرية القصوى.
تواجه السلطة في العراق الاحتجاجات بقطع الإنترنت، وتعتقد أن هذه الوسيلة مجدية لاستهلاك طاقات الناس، لكن المشهد هذه المرة، كان مختلفًا، حيث قطع الإنترنت، فجأة، وجد الشباب أنفسهم، أنهم في غمرة أجواء القتل والاختطاف والرعب، إضافة إلى أن الواقع الذي كان يُحتمل بوجود "وهم الحياة" الذي يضيفه الانشغال بالإنترنت، تحول إلى ضجر مميت، وفي غياب "البوبجي" الذي سمي الجيل المتظاهر باسمها لاحقًا، ومواقع التواصل الاجتماعي، صار الناس فعلًا في مواجهة فعلية مع الحياة التي لا حياة فيها! يستخدمون التلفزيون والإذاعة في شوارع ميّتة وبيوت متهالكة، لا خدمات فيها، ولا أي تعبير حقيقي عن وجود التقدم الذي يليق بما يمكن أن يكون مزامنًا للانفجار التكنولوجي المشاهد عبر الإنترنت.
وحتى تكتمل أجواء الرعب وانعدام الحياة، رافق قطع الإنترنت، حظر للتجول، صار التنقل مكلفًا، لكنه أيضًا، ومع علم الشباب بوجود الموت في الجانب الآخر، استمروا في التظاهر، وكأن انجذابًا نحو الهاوية يدفعهم للاستمرار، حيث لم تعط "الحياة العراقية" سببًا للحياة، فحصلوا على سبب للموت على الأقل! الموت من أجل قضية كبرى، اسمها الوطن، أو التغيير، أو الحصول على حياة حقيقية وليست موجودة على "الإنترنت المقطوع" بالأصل. ربما، وفي مشاهد الثبات والشجاعة التي شاهدناها جميعًا عن غياب معنى الاستمرار في حياة فقدت أي معنى بالنسبة لهم، صنعها الواقع السياسي الذي فشل في تحقيق أبسط ما يطمح إليه الناس. أتذكر أنني رأيت مراهقًا كان يقدم معنى مكثفًا عن هذه الصورة التي نتحدث عنها، يبتسم مع أصدقائه والرصاص في ذروته، ربما كان يريد أن يقول: لم أعد صالحًا حتى للموت.
يمكن القول إن التظاهرات في بدايتها، كانت عفوية وتفتقر إلى أي نظرية ثورية أو حامل اجتماعي لها، فضلًا عن القيادة السياسية التي تنظمها وتشبعها بالرؤى، لكنها، ومع هذا الأمر، صارت العصارة الأرفع شأنًا والأثمن والتي تعبر عن نفسها بالشعارات التي رُفعت فيما بعد إزاء الخراب السياسي العراقي، إذ أن جميع التظاهرات التي شهدتها حقبة ما بعد الغزو الأمريكي كانت بشعارات مطلبية وعن حدث آني، لكن انتفاضة تشرين، وبشعارها "نريد وطنًا" كانت تطالب بالدولة، هل يوجد أشمل وأكبر من هذا المطلب في "عراق المحاصصة"؟
لقد خلق النظام السياسي في العراق خطابًا يشبع الناس بالخرافات الطائفية والدينية والقبلية، وبدلًا من أن يكون الصراع السياسي يرتكز أساسًا على نقاش توزيع الثروة والسلطة السياسية، صار الصراع طائفيًا، ليجد العراقي نفسه في حفرة لا يستطيع من خلالها رؤية المأزق الحقيقي الذي يعيشه، مأزقه الذي فتحت انتفاضة تشرين عينه بوضوح عليه، وحولت حقوقه إلى المتن، بعد أن كانت في الهامش.
كان المعارضون الذين هيمنوا على مشهد الاحتجاج السياسي في عراق ما بعد حرب إيران، وبسبب النظام العسكري المستبد والتاريخ السياسي المضطرب، هم الإسلاميون فقط، وقد استثمر هذا الأمر في بناء النظام السياسي الذي يلائم التضاريس الطائفية في العراق، لكن انتفاضة تشرين أيضًا، جعلت من ولادة الوطنية أمرًا طبيعيًا في أجواء يخاف فيها الأخ من أخيه وسط الصراع المحموم حول "نحن وهم".
كانت قلوب الملايين الذين خرجوا بعد 25 تشرين الأول قبورًا للذين أسقطهم القناص في أسبوع الاحتجاج الأول
ولأن القتل لا يمارس كثيرًا دون غطاء عقائدي أو محاولة شيطنة الخصم، فإن السلطة، وبعد جولات الدم، قالت إن المتظاهرين أبناء المؤامرة ويريدون إسقاط الدولة. كانت نظرية لا تفسر شيئًا سوى أنها دلالة على وصول النظام إلى نقطة مسدودة لا يستطيع أن يتعامل مع الأزمة من خلالها. وبالرغم من إطلاق مخزون الجيوش الإلكترونية وتسابق الإعلام الحزبي على "أمريكية التظاهرات" أو دعمها من جهة خارجية، ظلت هذه التظاهرات بشعاراتها وضحاياها هي الحدث الأهم في هذا التاريخ، وصار الشهداء الذين وصولوا إلى أكثر من 100 شخص بالأسبوع الأول في قلب كل شاهد على المأساة، كانت قلوب الملايين الذين خرجوا بعد 25 تشرين الأول/أكتوبر قبورًا للذين أسقطهم القناص، أنه الموت الذي يمنح الحياة معناها، ويصنعها من جديد.
اقرأ/ي أيضًا:
استذكار للضحايا ووعود بالعودة.. ناشطون يحيون الذكرى السنوية لانتفاضة تشرين