لا يخفى على عراقيٍ أو متابع للشأن العراقي الدور الكبير الذي تلعبه المرجعية الدينية في النجف، في السياسة والأمور العامة فضلًا عن القضايا الخاصة التي تتعلق بتدين الأفراد والجماعات وطقوسهم وتقاليدهم والشؤون المالية ذات العلاقة بالفروض وما يدعى "الخُمس"، وتجلّى دورها الجوهري في دعوة الجهاد الكفائي ضد تنظيم داعش في 2014 وما تلاها من تطوع جموع غفيرة للقتال وتداعيات تلك الدعوة ـ التي صارت عمليًا وسياسيًا "فتوى" فيما بعد ـ وآثارها السياسية التي نعيشها حتى اللحظة.
الانتخابات بالصيغة التي طالب بها المتظاهرون تعني موت الموجودين في الوقت الراهن سياسيًا
لسنا بصدد التفصيل في خطابات المرجع عن طريق وكلائه طيلة الفترة الماضية، أو مراجعة دوره السياسي بشكل عام، ولا أثناء التظاهرات، ولعل ذلك يحتاج إلى موضع خاص في وقت آخر، وإنما قول بعض النقاط حول البيان الصادر من مكتب المرجعية عقب لقاء مبعوثة الأمم المتحدة جينين بلاسخارت، السيستاني.
اقرأ/ي أيضًا: في أحدث ظهور للمرجع الأعلى.. الكاظمي يتلقى حزمة توجيهات من السيستاني
تبرز أهمية البيان من انقطاع طويل للخطب السياسية التي يلقيها الوكلاء في ذروة التظاهرات الشعبية بعد تفشي جائحة كورونا وتوقف النشاطات كافة بما فيها صلاوات الجُمع حيث يُقرأ فيها ما يريد المرجع قوله حول الأوضاع العامة.
بعد هذه الأشهر من غياب التعليق السياسي من المؤسسة الدينية الأهم، يُمكن وصف البيان بالقوي، لناحية مفرداته، واللغة التي أُستخدمت وتوقيتها. حَمل البيان عدة ملفات أهمها الانتخابات وقانونها ونزاهتها والسيادة والفساد ومحاسبة القتلة وسحب السلاح غير المرخص وإشارات كثيرة للتقسيم.
تحديد موعد الانتخابات من قِبل الكاظمي أثار حفيظة بعض الأحزاب والشخصيات السياسية وانطلق مزاد المبكرة والأبكر والتنابز حول صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية. كان مطلبُ الانتخابات المبكرة أحد أبرز مطالب انتفاضة تشرين، وقد وصف أحد المعلقين بحق، استجابة الكتل لهذا المطلب بكونها خطوة لامتصاص غضب المتظاهرين منعًا للتصعيد، وإلا فأن الانتخابات بالصيغة التي طالب بها المتظاهرون تعني موت الموجودين في الوقت الراهن سياسيًا.
حمل مطلب الانتخابات المبكرة في مضامينه رفضًا مطلقًا للبرلمان الحالي وضرورة ألّا يُكمل دورته التي بدأت بشبهات التزوير وبيع الذمم، وأكملت عامها بصمت القبور أثناء الحراك الجماهيري وتفجير أدمغة المتظاهرين، ونأمل أن ينتهي عمرها قصيرًا وبما يليق بأدائها.
هنا، تأتي كلمات المرجعية واضحة وصريحة في الإشارة لأهمية "بالغة" تحظى بها الانتخابات "المقرر إجراؤها العام القادم"، لتعلن بذلك انحيازًا أكيدًا للموعد المحدد من رئيس مجلس الوزراء، ولقانون عادل، إضافةً إلى تحذيرات من التباطؤ في إجرائها، أو إجرائها دون شروط النجاح وقناعة المواطنين بالنتائج ما سيفاقم المشكلة ويندم الجميع كما ذكرتْ. سيكون على الأحزاب المتخوفة من الانتخابات التحرك باتجاهات ليس من بينها مواجهة الكاظمي والمتظاهرين والمرجعية معًا في ملف الانتخابات.
الملف الثاني في بيان المرجعية، الذي قد يزيد أهمية عن الأول، تضمّن دعوات لتطبيق العدالة الاجتماعية والسيطرة على المنافذ الحدودية وربما لأول مرة تشير لملف بعينه كالمنافذ التي صارت مثالًا للفساد وغياب دور الدولة في بسط هيمنتها على موارد البلاد غير النفطية، هي إشارة داعمة لتحرك الكاظمي الأخير.. كما تطرقت لسحب السلاح غير المرخص، وهو دعم واضح أيضًا لخطوة الكاظمي لم يبق سوى أن يستغله عمليًا، خاصةً مع التركيز على مجاميع تسيطر على مناطق بقوة سلاح، الذي هو الآخر يُعد تأييدًا للعمليات الأمنية الأخيرة في محافظات جنوبية.
إن الدعوة لفتح ملفات الفساد "الكبرى" تعني عدم قبول منطق أن الحكومة "مؤقتة" لذا فهي غير معنية بالقضايا الإصلاحية الجذرية كما تقول ضمنًا الأحزاب السياسية التي تُريد منها ـ أي من الحكومة ـ ترتيب الأوضاع الاقتصادية والصحية والأمنية فحسب ثم تسليم الحكم لها مرة أخرى. وهذه الدعوة إذ تكون دافعًا للحكومة من أجل بذل خطوات جادة في مكافحة الفساد، إلا أنها تُلزم "معنويًا" الكاظمي أمام الجماهير بفعل شيء على أرض الواقع في ملف الفساد دون التحجج بقصر الفترة وكثرة الملفات المعقدة.
كذا في قضايا قتلة المتظاهرين وأعمال الخطف والاغتيالات الأخيرة، التي ركنتها الحكومة ذات الأجندة المزدحمة. والدعوة إلى العمل "بجدية" جاءت في مكانها، إذ رغم الارتياح الشعبي (النسبي) لخطوات الكاظمي إلا أنها تفتقد لإجراءات حازمة وحاسمة وسريعة، ما يجعل الحكومة عاجزة في نظر الناس أمام تكرار الاغتيالات والخطف حيث أن الجهات المتورطة بذلك لن تُوقف عملياتها بسبب وحيٍ أو صفقة سياسية. لن تفعل ذلك ـ كما قلنا منذ البدء ـ دون أن تبدأ الحكومة بالهجوم عبر العودة إلى ملف تظاهرات تشرين، بدلًا من مراوحة مكانها واتخاذ دور الدفاع الخاسر الذي سيتلقى أهدافًا تلو الأهداف بفعل ضغط الهجوم المستمر، بمنطق كرة القدم.
كثرُ الحديث في السنوات السابقة عن تقسيم العراق إلى دولٍ أو أقاليم، لكنه اضمحل حتى أصابته انتفاضة تشرين بمقتل من خلال الملحمة الشبابية التي أججت المشاعر الوطنية لدى الجميع، ما عدا بعض الدعوات لإقامة إقليم سني تبرز بين الحين والآخر غالبها للابتزاز السياسي أو للتظلم ليس إلا. وفي بيان المرجعية أكثر من إشارة إلى مخاطر التقسيم ووحدة البلاد المهددة وهو أمر مثير للانتباه، خاصةً وأن الإشارات وردت في سياق الحديث عن السيادة، والانتخابات المبكرة، والسلاح المنفلت. وبرأينا، فأن فكرة التقسيم مرتبطة بالإصلاح ذاته أكثر من رغبات الخارج في الوقت الحالي، حيث إن الفشل في إقامة نظام عادل سيؤدي إلى انهيار السلطات وفقدانها شرعياتها وبالتالي فتح الأبواب أمام جميع الخيارات دون الحاجة إلى مؤامرة.
اهتمت وسائل الإعلام والأحزاب السياسية والناشطون والمدونون ببيان المرجعية الجديد أولًا لطول فترة الصمت، وثانيًا للنقاط المثيرة للاهتمام التي وردت فيه، وهو بيان ذو حدين؛ يُعطي دفعةً قويةً للكاظمي في ظل مواجهة تحديات وتهديدات كثيرة منها أمنية، كما يلقي عليه مسؤولية العمل بوتيرة أسرع وأكثر عمليةً لإنجاز الإصلاحات المطلوبة، وإلا تحوّل هذا الدعم لأداة بيد خصومه لتسقيطه بحجة عدم تنفيذ ما وصفه هو "توجيهات المرجعية".
الفشل في إقامة نظام عادل سيؤدي إلى انهيار السلطات وفقدانها شرعياتها وبالتالي فتح الأبواب أمام جميع الخيارات
انحصر الآن زر العمل بيد المسؤول التنفيذي الأول، وأمامه طريقان، طريق سلفه حيدر العبادي الذي تلقى دعمًا مميزًا من الحكومة ومن الشارع وجهة سياسية ثقيلة الوزن كالتيار الصدري، إلا أن بطئه وتردده أفشل هذا الدعم، أو طريق آخر يسلكه متّكئًا على شارع منتفض ومؤسسة دينية فاعلة داعمة بالعلن.
اقرأ/ي أيضًا: