02-أكتوبر-2021

أصبحت الساحة في وقتها مركز كل الغزوات الممكنة

بالمجمل، لا يمكن وضع ثورة تشرين العراقية في خانة الثورة السياسية، حيث أنّ لمحات التغيير السياسي فيها بسيطة مقارنة بالأبعاد الثقافية والفنية التي ملأت الشباب وعاشت بهم وما زالت تعيش وتثمر إلى الآن، عن طريق منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو فعاليات على شكل رصيد ثقافي أو اجتماعي تُظهر إمكانية عالية لنشوء مجتمع مدني يستطيع إعادة إنتاج نفسه بمعزل عن السلطة. مجتمع يجتمع فيه الغرباء على إلقاء قيمة للجمال، في دلو الحياة المليئة بالقيم القبيحة.

خلقت حفلات التعارف في الأيام العشرة الأولى من تشرين آلة عزف جديدة لم يألفها جيل الشباب المتعارفين حديثًا

في مثل هذا الوقت، قبل سنتين، خرج عراقيون كانوا غارقين في الحياة اليومية، إلى ساحة التحرير، وقد أعيد اكتشافها فجأة، أصبحت الساحة في وقتها مركز كل الغزوات الممكنة، أعلن الناس الذين قضوا حيواتهم في مساطر الذل وبسطيات الهوان أنّهم لم يعودوا يستطيعون العيش بالطريقة التي كانوا يحيون بها. طفرة هائلة من الحس الاجتماعي والتلاحم اجتاحت أولئك الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم من قبل على أنهم دُمى معزولة وعاجزة يتحكم بها نظام لا يستطيعون السيطرة عليه ولا فهمه.

لا أحب الحديث في هذا المقال عن "تشرين وبداياتها" فقد اُشبعَت أرشفة وتأريخًا، والحديث في المقدمات مضى، وعرف الناس ماذا يعني حكم الشيعة في العراق، وكيف انقلب المنبرُ على العمامة، والعطرُ على أصحاب الياقات البيض. ما أنظر إليه بعد سنتين من هذه الظاهرة التي لن تتكرر، هو الفن في حياة هؤلاء الصغار، الفن بوصفه أداةً للتواصل، وعملية ديناميكية لإرادة البشر في العيش بالطريقة التي يودون عيشها.

منذ انطلاق ثورة تشرين، وحتى تجريف الخيم بالقوة، كان الفعل الأول الذي شرع به هؤلاء الصغار هو التواصل. كانت اللحظة الأولى بمثابة حفلة تعارف غير نمطية، لم تحدث في أسواقهم أو جامعاتهم أو شوارعهم وبيوتهم، حدثت في ساحة التحرير عندما وقفوا هناك، وهتفوا هتافًا واحدًا: الشعب يريد إسقاط النظام! لحظة تعارف غريبة شبيهة بلحظة الضحك داخل السينما، حيث يخرج الفرد فيها من حكم المجموع إلى حكم القيمة/الفكرة. وبعد حفلة التعارف التي أقاموها في مسرح التحرير والطيران والجملة العصبية ووزارة النقل وساحة الحمزة على أنغام القناص والرصاص الحي، قرروا دمج الفن بالحياة اليومية.

ما خلقته حفلات التعارف في الأيام العشرة الأولى من تشرين، آلة عزف جديدة لم يألفها جيل الشباب المتعارفين حديثًا، امتلكت هذه الآلة القدرة على توحيد المُفرّق، وتوجيه المُشتت نحو غاية أكبر. كان الثأر لدم الصغار هو الدافع الأول، ودمج الفن والتواصل هو الدافع الثاني لشبابٍ كانوا قد ألفوا العزلة القسرية على طيلة 17 عامًا من وقتهم. اتحدت الشعارات التي رسموها على الجدران، والتي حملت كثيرًا من روح السيريالية مع الواقع، فقد جربوا التواصل البشري كما لم يفعلوا من قبل. في الشوارع توقف المئات والآلاف وتحدثوا إلى بعضهم بعضًا، وكأنهم يفعلون ذلك لأول مرة، وبعد نزول الطلبة مع الشباب، يأتي الدافع الثالث للثورة ضد واقع السلطة، منطق: سنفعلها "هنا، والآن"، سنحرّك المشهد وننهي هذا النظام.

طلبوا المستحيل ربما، لكنه المستحيل الذي لا يمكن إرجاؤه إلى لحظة أخرى، المستحيل الذي إما أن يفرض نفسه الآن، وإما أن يضيع إلى الأبد. ففي الوقت الذي عَطَّلَ فيه النظام "البعثوشيعي" كل منافع الحياة الحديثة التي صدحوا بالإتيان بها وتبجحوا بكونهم خالقوها بعد 2003، لصالح مزيد من الذل والإرهاب والبؤس والقلق، وفي الوقت الذي وقف فيه سلاح الدولة من القوات النظامية -الشرطة الاتحادية وقوات مكافحة الشغب- وشبه النظامية -ميليشيات الحشد الشعبي- إلى جانب بشاعة الحياة اليومية، كان الطلاب، النساء، الرجال، التيار الوطني الجديد، يطالبون بـ "الجمال في الشارع"، وهذا المطلب لم يكن شعارًا، بل تحول واقعًا يطمح لإنهاء دورة الحياة المسلوبة.

لبضعة أسابيع، حولت ثورة تشرين الحديث الممل عن عمل الأشياء إلى الاستمتاع بالأشياء، قفز الناس وقتها من المخيال التمثيلي إلى الواقعي المفعم باللذة الشاعرية الذي كان مختبئًا خلف استعراضات المنابر الدينية عن الثورة، شبابٌ قدموا ثورة الحسين بصورة فنية "صورة الشباب العاري الذي يحمل صورة الحسين"، وقسم آخر أراد أن يسرد قصة ما، فرسمها على جدران نفق التحرير، وفتاةٌ فهمت الفن على أنّه تسلق جسر الجمهورية لإنقاذ شاب عَلِقَ في كمّاشة أفراد مكافحة الشغب، وهناك من ألقى قصيدة تحت وابلٍ من الرصاص. إنّها اللحظة التي تشاهد فيها الناس، كل الناس، يرون الحياة كقصيدة واحدة، ذات كلمات واحدة، وما يميزها هو فهمها المختلف عند دخولها رؤوس المستعمين.

"أيها الصغار، لا تصمتوا، تكلموا، قاوموا الكبار في العالم كله". الشاعر الياباني "سانكيشي توجي".

أعتقد بأنّ قوة هذه الأسطر، جعلتها تنتقل بطريقة ما من أقصى الشرق المأهول بالبشر، إلى صغارٍ عُزّل يسكنون العراق، قرروا أنّ يقاموا النظام العراقي بكل ما أوتوا من صراخ وفن وثورة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عامان وتشرين على قيد الحياة.. عصارة احتجاج فضح "التشيّع السلطوي"