في عام 1982 كتب ميلتون فريدمان الذي تأثر كثيرًا بمدرسة شيكاغو ويعد أشهر منظري هذه السياسة، إن "الأزمة وحدها، سواء أكانت الواقعة أم المنظورة، هي التي تُحدث التغيير الحقيقي. فعند حدوث الأزمة تكون الإجراءات المتخذة منوطة بالأفكار السائدة. وهنا تأتي على حد اعتقادي وظيفتنا الأساسية: وهي أن نطوّر بدائل للسياسات الموجودة وأن نبقيها حية ومتوفرة إلى حين يصبح المستحيل حتمية سياسية". ميلتون فريدمان، وهو مؤسس عقيدة الصدمة الاقتصادية. كان فكر هذه الرجل يقوم على استغلال الكارثة -مذهب رأسمالية الكوارث- سواء كانت انقلابًا، أم هجومًا إرهابيًا، أم انهيارًا للسوق، أم حربًا، أم تسونامي، أم إعصارًا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية. الجزء الأكثر فاعلية في هذا التلاعب يهدف إلى وضع الناس في حالة صدمة يعاني بعدها الناس من الرهبة، وفقد القدرة على الحركة في هذه الحالة يصبحون غير قادرين على التفاعل مع فقدان الحقوق، بسبب التعامل الوحشي الذي يتعرضون له. وهذا المبدأ تم تطبيقه حرفيًا عام 2003 أبان غزو العراق من قبل الأمريكان.
في خضم الحرب الأهلية بالعراق، كُشِف مشروع قانون يتيح لشركتي شل وبريتيش بتروليوم السيطرة على معظم احتياطيات البلاد الهائلة من النفط
إن مدرسة شيكاغو التي قادها فريدمان وطلابه وأهمهم "كسينجر- رامسفيلد - جورج بوش الأبن - بريمر- ديك تشيني" تتطرف في الدعوة لترك الحرية الاقتصادية للرأسماليين، ومنحهم حرية التملك والعمل وإلغاء الحدود والعوائق واستبعاد أي بعد اجتماعي أو عاطفي أو إنساني، وخفض الانفاق الحكومي وتسريح أكبر قدر من العمال من القطاع العام، وتسليم الإنتاج والتعليم والصحة للرأسماليين المقتدرين الناجحين، وهذا ما بات يسمى بالرأسمالية المتوحشة، أو "النيوليبرالية"، وهي أبرز وجه وتفسير للاستعمار الحديث، الذي يهدف لفتح الدول أمام الشركات العملاقة العابرة للحدود، وفي سبيل ذلك لا مانع من توظيف جيوش الدول العظمى والمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي).
اقرأ/ي أيضًا: "كتاب الانهيار".. فوضى الاحتلال من سقوط صدام حتى صعود داعش!
عملت استراتيجية (الصدمة والترويع) في العراق مع العلاج بالصدمة على خصخصة شاملة، وتحرير كامل للتجارة، وضريبة ثابتة بنسبة 15%، وتقليصًا كبيرًا لحجم الحكومة، وتدمير البنى التحتية، واللامبالاة حيال نهب ثقافة البلاد وتاريخها، وفي خضم الحرب الأهلية بالعراق، كُشِف مشروع قانون يتيح لشركتي شل وبريتيش بتروليوم السيطرة على معظم احتياطيات البلاد الهائلة من النفط. هكذا كانت السياسة الاقتصادية لسيدة الخراب الأولى -أمريكا ـ تجاه العراق، وبطبيعة الحال أنتجت مجتمعًا مفككًا واقتصادًا لا يُسعف أكثر فئات المجتمع.
يستخدم مايكل اوترمان و ريتشارد هيل وبول ويلسون في كتابهم الشهير(محو العراق: خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع آخر) مصطلح" إبادة المجتمع"، الذي استخدمه لأول مرة كيت داوت في كتابه "فهم الشر: دروس من البوسنة" والذي ينطبق على عراق ما بعد عام 2003، وهي الأسس التي حددها كيت داوت لتحطيم الدولة مستعينا بتجربة يوغسلافيا سابقًا التي تحولت إلى ست دول لاحقًا. إنه السيناريو الذي تم وضعه في مراكز الأبحاث الغربية، بعد دراسة لطبيعه المجتمعات التي يراد تمزيقها، وتفتيت الدولة التي تعيش فيها مجاميع بشرية مختلفه منذ قرون من خلال تفجير الكراهية، لا يتم تدمير البيوت فحسب بل هيبة المنزل، لا يتم قتل النساء والأطفال فحسب، بل المدينة أيضًا بطقوسها ومناهج حياتها، لا تتم مهاجمة مجموعة من الناس فحسب، بل تاريخها وذاكرتها الجماعية، لا يتمّ هدم النظام الاجتماعي فحسب، بل أيضًا المجتمع نفسه. يسمى العنف في الحالة الأولى إبادة المنزل،وفي الثانية إبادة المدينة، وفي الثالثة الإبادة الجماعية، إلا أن من الضروري إدخال تعبير جديد محدث على الحالة الرابعة وهو إبادة المجتمع في عراق ما بعد 2003: "حيث تم هدم كل قيم التضامن وعلاقات الجوار والأحياء السكنية والمذاهب وبناء نظام الحواجز المادية والنفسية والدينية، وسيطرة الارتيابية والخوف من الآخر"، والأخطر من ذلك، انقلاب المقاييس بحيث يصبح الشاطر ذكيًا، والنبيل العفيف غبيًا لأنه لا يشارك في الوليمة العامة والنهب، ويصبح اللص سويًا، والشريف منحرفًا.. وغيرها من التناقضات التي تقلب منظومه القيم الأخلاقية والسياسية السوية لصالح نقيضها.
كيف يحدث هذا؟ يقول كيت داوت: "من خلال خطة منسقة لأعمال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية للمجتمع ونتائجها وحشية. تتضمن تدمير: التضامن، الهوية، العائلة، المؤسسات الاجتماعية، وعي الذات... لكي يصبح الارتياب وسوء النية التوجهين السائدين لدى الناس". يعلق مؤلفو الكتاب الثلاثة مايكل اوترمان وريتشارد هيل وبول ويلسون على فقرات كتاب كيت داوت هذا بالقول: التدمير المقصود للعراق وشعبه الذي قامت به الولايات المتحدة الامريكية وحليفاتها، أبان حرب الخليج، وحقبة العقوبات الدولية، وحرب الخليج الثانية، وخاصة في ضوء غزو العراق في نيسان/أبريل 2003 الذي حدث دون تفويض أممي، شكل محاولة إبادة اجتماعية ليس للشعب إنما للدولة العراقية رغم التاريخ الطويل لهذه الدولة وتعايش مكوناتها الأثنية.
لكن كيف تحقق ذلك خلال 14 عامًا من الحروب والدمار والإرهاب والنهب وتغيير القيم والمفاهيم والمعتقدات. وحتى كثير من سلوك الأفراد التي جعلت نزعات الانفصال لأسباب إثنية لا تثير أي رد فعل غاضب من الحكومة والشعب، ومصرع العشرات، سواء بفعل الإرهاب أو الحرب ضد القاعدة وداعش أمرًا طبيعيًا، وكذلك الرشوة والسرقة والاستيلاء غير الشرعي على أملاك الدولة، وتدخل الدول الأجنبية السافر بشؤون العراق واقتطاع أرضيه ومياهه، وتشرد الملايين من مناطق النزاع وهجرة أكثر من مليون عراقي خارج الحدود، كيف تحقق هذا في ظل الديمقراطية الأمريكية في العراق؟ يجيب الكتّاب الثلاثة، موضحين عملية تمزيق الكيان العراقي: "إن مشاعر الاغتراب واليأس والكابة والقلق والمشاعر السلبية، هي ظاهرة سائدة بين الناس الذين تنقلب أسس حياتهم بصورة عاصفة، ويشعر الناس الذين يعرفون بعضهم قبل سنوات أنهم في الحقيقة غرباء عن بعض، ليس لأن هؤلاء خدعوا بعضهم كما يلوح في السطح، بل لأن نظرة الجميع للحياة تغيرت تمامًا، والأسس الاجتماعية والثقافية والصحية والأخلاقية، وروابط اللغة والتاريخ والقرابة والصداقة قد حرثت، بل قلبت رأسًا على عقب. ولم يعد للناس ما يحكمون به على بعضهم بل على أنفسهم إلا بالحقد والخوف والنقص والكراهية، وهي أعراض تدمير البنية العضوية للمجتمع وروابطه، وزعزعة الأساس الداخلي للإنسان، وتحويله إلى جيفة متنقلة، أو إلى مخلوق ساخط يعوي على قمر بعيد، ويتعرى سلوكًا ولغةً في الساحات والمنابر العامة.، بوهم أنه تحرر من كل القيود السابقة. سوف تنهك قواكم وأنتم تتصارعون فيما بينكم، ويتهم كل مكون الآخر بالعمالة لتلك الجهة أو غيرها، وتستنزف ثروات العراق ودم الآلاف من أبنائه، في حروب داخلية، تمهد في مجملها لتمزيق الدولة والشعب العراقي، وهذا هو جوهر مشروع الشرق الأوسط الجديد".
اقرأ/ي أيضًا:
"التحرير" على الطريقة الأمريكية!
جردة حساب في مواجهة الاحتلال الأمريكي.. كيف انقسمت المقاومة العراقية طائفيًا؟