يتفاعل العراقيون بالعادة مع الأحداث العربية شأنهم شأن الدول التي تربطها مع الآخر "اللغة"، فضلًا عن الروابط الأخرى كالثقافة والجغرافية والأحداث المتشابهة والمصائر المشتركة، وبصورة أقل مع الأحداث العالمية التي لها صلة من نوع ما مع حياتهم في بلادهم كانتخابات الولايات المتحدة على سبيل المثال. لكن التفاعل بهذا الحجم مع أفغانستان، الدولة غير العربية، وغير المجاورة، يبدو غريبًا للوهلة الأولى. سياسيًا: انطلقت تعليقات السياسيين على الحدث منذ لحظته من مختلف فئاتهم. إعلاميًا: تصدرت أفغانستان حديث نشرات الأخبار والبرامج الحوارية في محطات تلفزيونية مهمة. شعبيًا: كانت مواقع التواصل تبدو أفغانية في العراق لناحية التعليقات وتناقل صور اجتياح حركة طالبان لأنحاء البلاد ومشهد مطار كابول التاريخي. وصل الحال بالتأثّر إلى حد أن أحد الزبائن في منطقتنا خاطب بتهكّم صاحب مطعم كان يصلي ساجدًا بالقول: "خلاص اترك.. طالبان سيدخلون علينا"!
نشأ واستفحل الفساد الجماعي الذي ينخر النظام العراقي والأفغاني كالنبات السام في بيئة أمريكية مواتية سهّلت تدفق المليارات إلى جيوب مافيات سياسية ومسلحة
في العمق، ليس غريبًا هذا الاهتمام الكبير، فالمشهد ذات المشهد، منذ اجتياح الجيش الأمريكي للبلدين عام 2001 و2003، حتى انسحاب الأمريكيين ثم سقوط محافظات عراقية بيد تنظيم داعش، وانسحابهم من أفغانستان وسقوط حكومة أشرف غني وسيطرة حركة طالبان.. أعاد المشهدُ حتى لناحية الزي الذي يرتديه عناصر طالبان إلى أذهان العراقيين صورةَ عناصر القاعدة والتنظيم.
اقرأ/ي أيضًا: طالبان تعود من جديد.. كيف تفاعل العراقيون مع الحدث؟
كانت ردود فعل الأحزاب والفصائل الحليفة لإيران عبر تصريحات ووسائل إعلامها طريفة بعض الشيء باجتماع الدهشة والحيرة. هذا الارتباك أظهر هجومًا (طبيعيًا) ضد جماعة تنتمي لفئة الأعداء بالنسبة لهذه القوى بادئ الأمر، ممزوجًا بشماتة ورسائل مبطنة ومحاولات لإبراز مشهد ترك الأمريكيين لحلفائهم والذي يقتضي تناول أخبار طالبان كانتصار لها، مصطدمًا بالتفاعل الإيراني الرسمي مع الحدث وسير هذه القوى خلفه كالعادة.
مقاربات متخيَّلة
كالعادة أيضًا، أخذ الضخ الإعلامي الصادر من وسائل الإعلام المحلية والعربية جانبًا دعائيًا موجّهًا نحو الداخل (الدولة/المنطقة) المستهدفة من الدعاية الإعلامية، إذ تُصاغ الأخبار والتحليلات والتعليقات وفق أجندة الإعلام الخاصة نحو جمهورها هي أثناء تناولها ما يجري في موقع الحدث: أفغانستان، وقبلها تونس.
وفي ظل زحمة الضخ الإعلامي ضاع الكثير من البديهيات واختلطت على المتابع العراقي الأحداث وصار يُقارب البعيد ويُبعد القريب. لعل المتابع المعني نسي بفعل وسائل الإعلام أن نسبة أتباع المذهب السُني في أفغانستان أكبر من نسبة الشيعة في العراق، إذ يشكلون أغلبية سكان البلاد الآسيوية إضافة إلى التركمان والطاجيك والشيعة وغيرهم، ولعله نسي أن حركة طالبان سُنية تتبع المذهب الحنفي. ومع ضياع تلك البديهيات صار الربط والمقارنة مع تنظيم داعش أسهل وبالتالي فأن استدعاء فكرة الحشد الشعبي كأداة للدفاع عن الدولة (أي دولة) ضد الجماعة الإرهابية (أي جماعة) منطقيٌ.
إن التفكير في صمود طالبان بقاعدة شعبية داعمة كل هذه السنوات والعودة بالقوة التي شاهدها العالم تفكيرٌ غير مطروح مع فقدان البديهيات المتاحة عبر غوغل. ومع دهشة زعماء ومفكري العالم في المشاهد القادمة من أفغانستان لا تكون الحيرة العراقية نشازًا، فالارتباك العالمي يترك لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الآيديولجيتين، وللشعبويين، أفضلية إعطاء التفسير الجاهز النهائي السريع للمتابعين عبر الديماغوجيا.
ومن طرائف بعض العراقيين على الجانب الآخر، هي لوم الرئيس الأمريكي جو بايدن وتحميله مسؤولية انهيار الحكم في أفغانستان لصالح طالبان والترحّم على أيام دونالد ترامب الذي هو من فاوض الحركة علنًا وبدأ خطة الانسحاب الأمريكي من البلاد.
ثمة مقاربات
رغم استثمار الحدث واستغلال الصورة، ثمة مقاربات حقيقية بين حالتي العراق وأفغانستان كان أولها الاحتلال الأمريكي، ولعل الانسحاب لن يكون آخرها خصوصًا مع الاتفاق الأخير بين بغداد وواشنطن.
أبرز وأهم ما يجمع بين الحالتين هو الفشل الذريع في بناء الدولة من قبل قوة الاحتلال والفاعل الدخلي، رغم إنفاق مليارات الدولار على تطوير المؤسسات. ففي أفغانستان، أنفقت الولايات المتحدة أكثر مما أنفقته لمساعدة أوروبا الغربية بكاملها بعد الحرب العالمية الثانية، منها قرابة تريليون دولار إنفاقًا عسكريًا بأرقام البنتاغون على جيش انهار في غضون أسابيع لأنه "لا يريد القتال" حسب وصف بايدن. وهنا ستكون الصورة مقاربة لانهيار الجيش العراقي عام 2014 بعد إنفاق قرابة التريلوني دولار في العراق، منها نحو تريليون دولار إنفاقًا عسكريًا. وبالنتيجة، فحال المؤسستين كما رأينا. وكما ضمت المؤسسة الأمنية العراقية ما يُصطلح عليه في العراق بـ"الفضائيين"، هناك عشرات آلاف الرواتب تنفق على جنود لا وجود لهم على الأرض الأفغانية.
نشأ واستفحل الفساد الجماعي الذي ينخر النظام العراقي والأفغاني كالنبات السام في بيئة أمريكية مواتية سهّلت تدفق المليارات إلى جيوب مافيات سياسية ومسلحة دون تطوير للمؤسسات أو البنى التحتية والخدمات أو حتى الإنسان في البلدين، إلا اللهم تفشي مظاهر السلاح والفوضى والاقتتال الأهلي والمخدرات والأفيون الذي يتزعم الأفغان تصديره عالميًا.
مقاربة أخرى تنتظر تصريحًا عن العراق مشابهًا لما أطلقه بايدن الذي قال مؤخرًا إن مهمة بلاده في أفغانستان "لم يكن من المفترض أن تكون بناء دولة أو خلق ديمقراطية مركزية"، وأضاف أن "مصلحتنا في أفغانستان تبقى كما كانت دائمًا منع هجوم إرهابي على وطننا". وما حدث هنا: تدمير العراق/الدولة وتحييده عن الصراع مع إسرائيل ومنعه من التحكم في اقتصاده الوطني وتركه لقمة سائغة للاقتتال الأهلي والإرهاب العالمي، لكنه ينتظر اعترافًا بهذه الصراحة.
بالعودة السريعة إلى المقاربات والاختلافات والبديهيات: ينتمي تنظيم داعش اجتماعيًا إلى أقلية لم يتبعه منها إلا جزء ضئيل من تلك الأقلية سرعان ما نفر منه لاحقًا للتناقض الصارخ مع أسلوبه المتشدد حد التكفير، وقد ذكرنا أثناء الحرب أن التنظيم ولِد ميتًا حين أعلن دولته وسيعود إلى الجحور وينفذ ضرباته المباغتة.
من المستبعد أن يتكرّر سيناريو طالبان في العراق عن طريق تنظيم "داعش" أو أشباهه نظرًا للاختلاف بين الحالتين
الآن، نستبعد تكرار سيناريو طالبان في العراق عن طريق تنظيم داعش أو أشباهه بالاستناد إلى الاختلاف بين الحالتين، وليس لوجود الفصائل المسلحة التي تفاخر بأنها السد المنيع لأي طالبان عراقية. وكما أن الاختلاف البنيوي بين البلدين يستبعد تكرار المشهد حرفيًا، فأن المقاربات المذكورة وغير المذكورة لا تجعل تكرار السيناريو الأفغاني مستبعدًا؛ لكن بتبادل الأدوار والأزياء والعناوين.. فطالبان العراقية لن تكون سُنية على المدى القريب.
اقرأ/ي أيضًا: