في كل مجتمع يوجد سجل يحتوي على قائمة تضم أهم الأولويات. مؤكد أن المأكل، والملبس، والمسكن يتصدر قائمة الأولويات في أيّ مجتمع كان. وفي المجتمعات الحديثة يضاف إلى هذا السجل أولويات سياسية واجتماعية تندرج في عداد القضايا الضرورية التي هي ليست أقل ضرورة من الأساسيات الثلاثة أعلاه. في هذه المجتمعات المُنَظَمَة حسب أولوياتها ومُوَزَّعَة طبقيًا؛ رأسماليون كبار، مدراء عامّون، تجار، فلاحون، عمّال، صغار الموظفين. ومؤكد أن المشاكل الاجتماعية في المجتمعات الحديثة تتمحور بشكل حول الازدهار السياسي والاجتماعي. أن الفضائل الاجتماعية تنظر إلى زيادة النمو الاقتصادي كغاية تقترب من المقدس، والفضائل السياسية تنظر إلى البرامج السياسية التي تصب في مصلحة المواطن. باختصار: لقد تم تنظيم المجتمع على هذا الأساس.
لو تطحانت العشائر فيما بينها بمعارك دموية واستخدمت كل أنواع الأسلحة فستعمد السلطة على تجنّب استفزازها خوفًا من ردود أفعالها
حتى وإن جادلنا في الخصوصية الثقافية، من أن "الثقافات الأطلسية"، بحسب تعبير الكسندر دوغين، ذات النزوع الرأسمالي، والتملك الخاص، والديمقراطية الليبرالية، تختلف من حيث بنيتها الثقافية عن الثقافات الشرقية، فهذه الأخيرة تستلهم نظامها السياسي، وفن إدارتها للحكم، من تقاليدها العريقة الضاربة بالقدم. فعلى الرغم من المنافع الجمّة التي حازتها الصين من محاسن الحضارة الغربية إلّا أنها ظلت وفية لمخزونها الثقافي الموغل بالقدم، خصوصًا فيما يتعلق بفلسفتها السياسية.
اقرأ/ي أيضًا: ماهية السياسي العراقي
لكن هذا التباين لا يجعل المجتمع العراقي في قائمة الاستثناء. خصوصًا نحن نناقش ثقافة تتعرض فيها المفاهيم إلى سيولة غريبة لدرجة أنك لا تستطيع الاتفاق حتى على مفهوم الاستبداد. لأنه سيدخلنا في مقارنة بين استبداد فلاديمير بوتين، مثلا، واستبداد صدام حسين! والأمر لا ينطوي على غرابة إذا ما عرفنا أن معظم الأيديولوجيات التي تعاقبت على العراق كانت تعاني من تناشز كبير بين أيديولوجيتها المتبعة وبين سلوكها السياسي. لذلك لا توجد فلسفة سياسية يمكننا أن نهتدي من خلالها لنخرج بخلاصة وافية عن خصوصية ثقافية تميز العراق وتضعه في قائمة الحضارات التي حافظت على عمقها الحضاري وكل ما يتعلق بفلسفة الحكم والإدارة. ولا بأس أن نذكر بهذه الحقيقية التاريخية التي رافقت السياسة العراقية منذ آلاف السنين وهي أن الحاكم مبعوث من الآلهة لحكم البشر!
المهم في الأمر، ما أود قوله أنه حتى المقارنات المعقودة بين الحضارة الغربية والشرقية لا تمنحنا فسحة كافية للاستثناء، ذلك أن ثقافتنا الحالية بلغت من التشويه حدًا يتعذر معها أن نعثر على نقطة مرجعية ننطلق من خلالها؛ لا تقاليد دولة مركزية، مثل الصين، وروسيا، ولا تقاليد دولة مؤسسات ذات جذور عريقة تمزج بين الاثنين، مثل إيران والهند، واليابان وكوريا الجنوبية. ولا تقاليد دولة ديمقراطية حديثة تستمد أصولها من الحضارة الغربية الحديثة. الجذر الأصيل الذي يمكن أن نتفق عليه هو تلك الجماعات التاريخية وأعني بها القبائل. من هنا يغترف خزان الثقافة العراقية، بنحو العموم، من هذا الرافد التاريخي. وأظنها مقاربة قد تقربنا من سبب استبعادنا للعراق من المقارنة التي عقدها ألكسندر دوغين. ونفهم كذلك أن الأولويات القصوى في مجتمع تقليدي مثل المجتمع العراقي ستكون متباينة تمامًا عمّا ذكرناه من التجارب التاريخية للحضارات الأخرى.
لكي لا نعيد ما كتبناه حول أولويات المجتمع التقليدي ومشاكله الجوهرية، نعقد هنا مقارنة بسيطة تسلط الضوء على قائمة الأولويات القصوى في السياسة العراقية: لو حاولت فئات اجتماعية أن تنظّم نفسها وتطالب بحقوقها عبر الاحتجاجات المعمول بها في الأنظمة الديمقراطية، فسيأتي الرد سريعًا وموجعًا ودمويًا، واحتجاجات تشرين ليست بعيدة، ولا زالت دمائها رطبة حتى هذه اللحظة. لكن لو تطحانت العشائر فيما بينها بمعارك دموية واستخدمت كل أنواع الأسلحة فستعمد السلطة على تجنّب استفزازها خوفًا من ردود أفعالها، فتغدو العشيرة هي الدولة وليس العكس. وما زالت تعلن ولاءها غير المشروط لهذه السلطة أو تلك فسيكون كل ضحايا الاقتتال العشائري قرابين مجانية لأزلام السلطة.
إن القائمين على أمر السياسة العراقية ينتصرون لا شعوريًا لتراث المجتمع التقليدي، ويعلنون حكم الإعدام على كل منجزات الحضارة الغربية والشرقية معًا! لذلك كل حكومة جديدة قادمة ما لم تجري عملية تحديث واسعة النطاق لكوادرها السياسية والإدارية عبر الاستعانة بالتجارب العالمية الرائدة فسيبقى العراق خارج دائرة المقارنات الجادة، وستبقى الدولة العراقية خارج أفق الانتظار.
اقرأ/ي أيضًا: