يمثَّل العراق بيئة آمنة للخلاص من العقاب، بإمكان المرء ارتكاب شتّى أنواع الجرائم دون أن يخشى العقوبة، لن يفكّر أبدًا بالسجن وقضبانه ومشقّته. الوضع منفلت كفيلم "كاوبوي" أميركي يتقاتل فيه حاملو المسدسات البراقة دون أن يكون هناك أي رادع لهم.. ليس هناك سلطة تمنع كلّ ذلك، السلطة هنا متفرّجة، ومشاركة في بعض الأحيان بمشاهد "الأكشن" الطويلة والمملة والدموية. لكن كيف ذلك؟
الوضع العراقي منفلت كفيلم "كاوبوي" أمريكي يتقاتل فيه حاملو المسدسات البراقة دون أن يكون هناك رادع لهم
منذ أكثر من سبعة أعوام يستمر العراق بوصفه بيئة غير آمنة للعمل الصحفي. عدد التهديدات التي تصل لذوي هذه المهنة باطراد، وعدّادُ قتلاها يتصاعد على سبوّرات المراصد الصحفيّة، إلا أنه لا فعل عقابيًّا يطبّق، لم تقم القوّات الأمنية العراقية بتشكيلاتها التي يتجاوز عددها أكثر من مليون فرد، بإلقاء القبض على أي من مرتبكي هذه الجرائم أو المهددين بها، ليس هناك حتّى مشتبه بهم.
من ناحية المجتمع، فيبدو الأمر أكثر سوءًا، الجثث التي تُلقى على الطُرقات كل يوم، والتي تنقل أخبارها وكالات الأنباء بلا كلل، لم يتوصّل أحّد إلى مرتكبيها، هؤلاء شبحيون. ينزلون من الفضاء ويقومون بهذه الأفعال ويعودون من حيث أتوا. غالبًا ما تحمل الجُثث الملقاة على الطُرق السريعة صفة "مجهولة الهويّة"، وقاتليها أيضًا يحظون بالصفة ذاتها، ورغم أن الجثث، بعد ساعات من العثور عليها، ستكون لها أسماء وأرقام هويّات وعائلات، لكن القتلى لن يحظوا باسم أبدًا، إنهم بلا بصمات، وربما حتّى بلا ورقة في إضبارة تحقيق الشرطة. قليل من البكاء.. كثير من النسيان.
هناك جانب آخر يشجّع على هذه الانفلات، وهو العشائر، يتربّى اليوم جيل كامل على ارتكاب جرائم القتل. يدفع القاتل نصف ديّة المقتول، وتتحمّل العشيرة النصف الآخر. تُصوّر العشائر القاتل على أنه واقع في محنة وعلى الجميع الوقوف معه، وتذهب عشيرة المقتول للتنازل عن حقّها في محاكمة القاتل. تنتهي القضيّة بالمال، ويعيش الجميع مطمأنين، والسلطة أيضًا مطمئنة لا شيء يصدِّع رأسها، في آخر الأمر التصادم مع العشيرتين يعني قلّة أصوات في صناديق الانتخابات، وهذا آخر ما تريده الأحزاب المُسيطرة على الحكم.
على الصعيد الحكومي، وإدارة مؤسسات الدولة، سيصير الواقع كوميديًا ومُرًّا، فهناك عُرف بين الأحزاب الممسكة بزمام السلطة يُعاقب فيه أيًّا من مسؤوليها الصغار حين يتورّط بفساد بيّن بإرساله سفيرًا إلى إحدى الدول الأوروبيّة، ولدى العراق اليوم "شلّة" سفراء فاسدين يمثّلونه دبلوماسيًا في حصون أعتى الدول تقدّمًا؛ أما مسؤولو الأحزاب الكبار، فلن يحظى أحدهم بعقوبة "السفير" حتّى. إنّهم معصومون تمامًا، يتسلّقون المناصب ويغيرون مواقعهم في الوزارات باريحية كاملة.
هذا الواقع المنحط الذي يعيشه العراق اليوم لا ينقصه سوى إعلان على الطريقة الهوليودية المتماسكة الإيقاع، والغنيّة بالمؤثّرات الصوتيّة والممثلين المحترفين. إعلان بهذا الشكل: "تُريد القيام بجريمة وتخشى عقوبة الإعدام؟ تحلم باختلاس الأموال وتخاف السجن؟ تتمنّى مخالفة القوانين وتُريد الإفلات من القضاء، وهناك ما هو أشد متعة.. تُريد ارتكاب مجازر وتتسلّم منصبًا رفيعًا؟.. كل هذا وأكثر.. سارع الآن إلى العراق".
قد يكون هذا أحد الإعلانات المستقبلية لشاشات التلفزة في أوقات الذروة في بلاد ما بين النهرين، فقد تحوّل هذا البلد، الذي وضع أول القوانين على وجه الأرض، إلى جنة للتخلّص من أي عقاب مهما ارتكب المرء من جرائم.