في الأيام التي كان يحكم بها صدام حسين العراق، عاش العراقيون في حكم حديديّ، استبداديّ. لم يكن المجال العام فيه صوت غير صوت النظام وحزبه الذي تضخم على حساب مؤسسات الدولة، فضلًا عن إدخال البلاد في حروبٍ عبثيةٍ ألقت بظلالها على مفاصل الحياة بأكملها، سياسية واقتصادية وثقافية، وكان من يحاول أن يقول كلمة واحدة ضد هذه الحروب سيُعدم ويكون من الأرقام التي تذهب إلى سجلات الموت والإعدامات بشكل يومي.
لا يُسأل "السلاح" في العراق. إنه محمي من قبل النظام السياسي، وهناك تحالف بين النظام السياسي وسلاح الميليشيات، مرة يكون معلنًا، وتارة يكون غير معلن
ثلاثة عقود ونصف بما فيها من الأمراض التي يصنعها الاستبداد على المستوى الثقافي، وما تركها من تمايزات على مستوى الهوية، ستنتهي باحتلال أمريكيّ لن يشتبك مع جذور المشاكل والأزمات التي يصنعها نظام منغلق يُعاني بالأصل من تركة ثقيلة على مستوى التاريخ السياسي للدولة، لكن على أية حال، كان العراقيون خلالها يتأملون أن يعيشوا حياة مختلفة عن التصورات الديكتاتورية التي طبعت على حياتهم طيلة حكم حزب البعث.
اقرأ/ي أيضًا: لحظة "الانفجار".. عواقب عقدين من الإفلات من العقاب
من أوائل الكلمات التي سمعها العراقيون بعد سقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الأمريكي في 2003، كانت كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش في أيلول/سبتمبر من العام نفسه. قال إن "سقوط نظام صدام حسين أدى إلى إقامة شرق أوسط، بل وعالم، أكثر أمانًا بعد سقوط حليف رئيسي للإرهاب في تلك المنطقة". ولم يكتف بوش بالتبشير بالعالم الآمن، إنما أشار إلى أن "مستقبل العراق يبشر بحياة من الكرامة والحرية، وهو أمر يختلف تمامًا عن الاستبداد الحقير الأثيم الذي كان قد عرفه"، كما أكد أن "الحياة تتحسن حاليًا في مختلف أنحاء العراق عبر الحرية".
ستمضي 18 عامًا على هذه الكلمة، ولا تزال أسئلة الناس في العراق تنطلق مرة عبر الكلام وتارة عبر الصراخ في ساحات الاحتجاج؛ ما هي ملامح المشروع الأمريكي في العراق؟ وهل تحقّقت الديمقراطية والحرية التي كان ينشدها الناس؟
اختار الأمريكيون نظام "الديمقراطية التوافقية" لحكم العراق الجديد، النظام الذي نشأ مع الماركسية النمساوية، مرورًا بنضوج معالمه التفسيرية عام 1969 في سياق نقاش عالم السياسة الهولندي الأمريكي آرنت ليبهارت، قبل بلورته بوصفه "نظرية" يمكن تطبيقها على المجتمعات المنقسمة، لكنه تحوّل في العراق إلى فاعل في صناعة الانقسام أكثر، إذ تمّ توزيع النظام السياسي على الجماعات الدينية التي تدعي أنها تمثّل الطوائف "سنة ـ شيعة"، مع القومية الكردية في إقليم كردستان، وصار النظام الاقتصادي (الريعي) والذي يعتمد على النفط بالأساس، يوزع بين سائر الأطراف التي تقول إنها الأصوات المدافعة عن الجماعات الطائفية في العراق ليغيب التنافس السياسي الديمقراطي ويحضر الاستقطاب الدينيّ الذي أخذ شكلًا دمويًا كما حدث في 2005 و2006.
وفي بيئة تضع الجماعة فوق الفرد، وحق الطائفة قبل حق المواطن، لا يكون الحديث عن الديمقراطية ذي فائدة، فضلًا عن تحول عملية الانتخابات إلى أشبه بـ"مسرحية" يكون "الغالب" فيها من يكون ناجحًا في الاستقطاب الطائفي، ومن هنا، ليس هناك داعٍ للإنجاز السياسي وتقديم برامج تساهم في إصلاح النظام السياسي من الداخل وتقدم الخدمات إلى المواطنين طالما أن آلية الوصول إلى السلطة في نظام العراق السياسي تعتمد بالأساس على قربك من الجماعة العقائدية وما يقرّره الزعماء من خارج النظام، ودفاعك عن "الجماعة" السياسية التي تنتمي لها. لا تزال الأحزاب في العراق لا ينطبق عليها مفهوم الحزب، إذ تعتمد على صلات قرابية وعقائدية، وليس علاقات طوعية أو "عقلانية"، وهذا ما يضرب فكرة وجود ديمقراطية حقيقية قائمة على التنافس السياسي، إنما ما يوجد، يأخذ سياق "التغالب"، هيمنة جماعة على أخرى.
قبل أكثر من 18 عامًا، كان العراقيون في الداخل لا يستطيعون المساس بالسلطة المتمثلة بالنظام البعثي ورئيسه صدام حسين، سواء بكلمة أو احتجاج أو حتى عبر الحديث العائليّ، لأن الناس كانت تخاف من مفهوم أسطوري شائع أن "الجدران لها أذان" وتسمع السلطة من خلالها، ومن يسعى إلى أن يتنفس هواء الحرية ويريد أن يتخلص من حبال المشانق، سيذهب إلى بلدان العالم، ويتحدث من هناك، لكن هل تغير شيئًا الآن؟ هل تتحدث الناس اليوم بما ترغب وتريد؟
أراد النظام السياسي في العراق تدجين الناس طائفيًا، وقسّمهم "شيعة ـ سنة ـ كرد"، وكانت قوى النظام السياسية تدعي أنها تمثل سائر المكونات. لم يكن النظام السياسي يقبل بخروج صوت مختلف عن أصوات الجماعات الثلاثة، ومن يقول أنا عراقي وطني، كان غير مرغوب به، ولا يستطيع الوصول إلى أيّ مكان سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية، لا بد أن يكون كل شيء في النظام يعود إلى طائفةٍ، وإلا، فلن يكتمل البناء الذي يسير وفقًا لتضاريس ممثلي الطوائف وتقسيمهم ثروات الدولة فيما بينهم، ومن هنا، يمكن القول إن النظام ديمقراطي بالمعنى الذي يسمح فقط للأصوات التي تتحدث بحقوق الجماعة العقائدية، والتحريض الطائفي أن تمضي للأخير.
لقد رفع المتظاهرون الشباب في 2019 شعار "نريد وطن"، وكان يعني "نريد دولة"، لا تُحكم وفق تفسيرات طائفية بدائية تنتمي إلى مراحل ما قبل الدولة
في الواقع، بدأت الاغتيالات للأصوات المختلفة في وقت مبكر من عراق ما بعد صدام حسين، لكن يمكن الحديث عن اغتيالات بدأت باستهداف فاعلين بالمجال العام حين قُتل مثقفًا وصحفيًا كان اسمه "كامل شياع". نشط الأخير حينها بمحاولة استعادة الثقافة العراقيّة لدورها في الوقوف ضد "التدجين الطائفي"، ونظّم مؤتمر المثقفين العراقيين في العام 2005، إلا إنّه اغتيل في 23 آب/أغسطس 2008، ولم يكشف عن الجهة التي قامت باغتياله إلى هذه اللحظة. كانت رسالة قتل كامل شياع، أولى رسائل الرعب للأصوات المختلفة، أنت يحق لك أن تتكلم في العراق، لكن لا تتكلم كفرد، يجب أن تتكلم مثل الجماعة الشيعية أو السنية أو الكردية، وإلا ستكون متهمًا ومتعرضًا للاغتيال الذي سيرمى إلى مجهول دون أي محاولة للتعرض إلى الجهة القاتلة أو كشفها.
اقرأ/ي أيضًا: تظاهرات "إنهاء الإفلات من العقاب": زعماء ومسؤولون يواجهون تهم قتل
في 2011 لم يكن العراق معزولًا عن محيطه العربي الذي كان يشهد احتجاجات أسقطت أنظمة استبدادية، وفي شباط/فبراير شهدت البلاد تظاهرات كبيرة في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، نظمها مثقفون عراقيون، لكن تم مواجهتها بقمع غير مسبوق، وتم اعتقال أغلب النشطاء فيها، وكان أبرز مؤسسي هذه الحركة، هو صحفي عراقي وكاتب وصانع أفلام، اسمه "هادي المهدي". كان المهدي من المنفيين أيضًا أيام نظام صدام حسين، لكنه أعاد كما غيره من الفاعلين بالشأن العام إلى العراق، مدفوعًا بحلم التغيير وصناعة الديمقراطية، وكان يتحدث بالإضافة إلى نشاطه في الاحتجاجات، عبر الصحافة والإعلام عن "التدجين الطائفي" والتجارة بالدين من قبل النظام السياسي، لكن فجأة، وفي صباح من صباحات أيلول/سبتمبر 2011، أستيقظ العراقيون على خبر مقتل هادي المهدي في منزله، ولم يُكشف عن الجهة التي قامت باغتياله إلى هذه اللحظة، ومن هنا يمكن الحديث عن بداية الاغتيالات السياسية من هذه اللحظة.
لا يُسأل "السلاح" في العراق. إنه محمي من قبل النظام السياسي، وهناك تحالف بين النظام السياسي وسلاح الميليشيات، مرة يكون معلناً، وتارة يكون غير معلن، وهو في تقسيم النظام وفقًا للجماعات العقائدية، فإن كل جماعة تحتفظ بحقها في امتلاك السلاح بمعزل عن الدولة، ولهذا، لا يمكن كشف الجهة التي تقتل وتتحرك استنادًا إلى حقها "الطائفي" في الدفاع عن الطائفة، وهذا حديث يمكن إرجاعه إلى الطائفة الشيعية، أو "الشيعية السياسية"، لكونها تمثل الأغلبية، وتمتلك أكبر الفصائل المسلحة وأكثرها عددًا في العراق.
ستمر سنوات طويلة على مقتل هادي المهدي، أحد أهم المحركين لاحتجاجات 2011، وسيختطف أناس غيره، ويقتل آخرون، ويجتاح تنظيم داعش محافظات عراقية، ويحدث ركودًا في الوضع السياسي بسبب الحرب، وتُشكّل ميليشيات وجماعات عقائدية أخرى مقربة من إيران بدعوى "الحرب على داعش"، إلى أن تنطلق احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019 في العراق، فتعود قصص المختلفين عن صوت الجماعة العقائدي، الذين يقتلون بشكل يومي لأنهم يقدمون تصورًا آخر عن العراق الذي لا يمكن اختزاله ـ برأيهم ـ بطائفة معينة، أو بجماعة عقائدية مسلحة.
لقد رفع المتظاهرون الشباب في 2019 شعار "نريد وطن"، وكان يعني "نريد دولة"، لا تُحكم وفق تفسيرات طائفية بدائية تنتمي إلى مراحل ما قبل الدولة، وكان جواب السلطة من اليوم الأول واضحًا؛ الدم. قتل أول متظاهر إلى أن اقترب عدد المقتولين إلى 600 شخص في محافظات مختلفة من العراق، ورافق هذا القتل الذي يحدث في ساحات الاحتجاج المستمر، اغتيالات تستهدف الناشطين والفاعلين بالتظاهرات من قبل جماعات مسلحة، فضلاً عن الاختطاف لنساء وشباب بهدف إسكاتهم، وإبعادهم تمامًا عن المجال العام.
تعرف السلطة في العراق الجهات التي تقوم باغتيال النشطاء وترويعهم في محافظات مختلفة، وعلى سبيل المثال، في مدن الجنوب العراقي، والتي يسكنها غالبية شيعية، لا يستطيع أحد أن يتحدث، لقد دخلوا حتى إلى الناشطات في بيوتهن كما حصل مع شابة تدعى "سارة طالب" في البصرة قُتلت في 4 تشرين الأول/أكتوبر 2019 وكانت طفلتها تنظر لروحها وهي تصارع الموت. كانت طالب أيضًا، حاملًا لجنين في بطنها، قُتلت مع زوجها وجنينها، وبقيت طفلتها الأخرى حية إلى الآن، يتيمة دون أبوين. وتعرضت سارة طالب بعدها إلى حملات تشويه من قبل "إعلام السلاح"، وهو ما حصل مع ناشطة أخرى تدعى "ريهام يعقوب"، أيضًا قُتلت بعد حملة تحريض أقدمت عليها المنصات المقربة من إيران.
اغتيالات كثيرة حصلت منذ انطلاق التظاهرات في عموم محافظات العراق، استهدفت ناشطين وإعلامين ومدونين، بينهم باحثون وكتّاب ونشطاء فاعلين في ساحات التظاهر، وكانت آخر حادثة اغتيال للناشط إيهاب الوزني في أيار/مايو، برصاص مسلحين يستقلون دراجة نارية.
مقتل "إيهاب الوزني" مؤخرًا دفع الناشطون والتنظيمات السياسية التي نشأت عن احتجاجات تشرين إلى أن يتخذوا موقف أستطيع أن اسميه موقف ثوري من الانتخابات. أرادوا أن يقولوا للعالم إن وجود الانتخابات لا يعني أن النظام ديمقراطيًا. لقد كان صدام حسين يقوم بمسرحية اسمها الانتخابات، لكنه ينافس نفسه بالحقيقة، واليوم، تريد القوى المسلحة أن تنافس نفسها، وتقتل كل من تعتقد أنه يشكل خطرًا عليها. تريد القوى السياسية المهيمنة في العراق أن تقوم بمنح "السلاح المنفلت" و "الميليشيات" شرعية، دون أن تستجيب للصرخات الموجودة في ساحات الاحتجاج والتي طالبت بإصلاحات جذرية، وأرادت البدء بإنشاء دولة حقيقية تحتكر السلاح ولا تفرط بحقها في بناء المؤسسات الرصينة.
لكن ما حصل مع أم إيهاب الوزني مؤخرًا، المرأة المسنة التي جابت الشوارع المحيطة بمحكمة كربلاء للمطالبة بدم ولدها، يُثبت أيضًا إصرار النظام السياسي على البقاء بمنطقة اللادولة. إذ أن المرأة تطلب من القضاء وفي سياق قانوني يدعم الدولة أن تعتصم أمام المحكمة لمعرفة من قتل نجلها، لكن قوات الأمن منعتها وهاجمتها بسبب نصب خيمة صغيرة وتحت حرارة الشمس. يستطيع النظام السياسي أن يستثمر حركة المرأة الثكلى، ويوجه عبرها ضربات للقتلة المعروفين إن كان جادًا في احتواء الغضب، لكنه يريد البقاء بهذه المنطقة، منطقة تحالف النظام السياسي مع الميليشيات، أو المنطقة التي يريد الجميع فيها أن يكونوا "أحبابًا"، يتقاسمون النفوذ والثروات، ودوائر مصالح تعرف جميع الأطراف كيف تتحرك بها ولا تتخطاها.
يعتقد كثيرون في العالم، وبما فيها أنظمة غربية، مع الأمم المتحدة، أن الانتخابات في العراق تعبر عن وجود ديمقراطية، ولهذا يدعمون وجودها، ولكن مع تجاهل مسار الاغتيال السياسي المستمر في العراق منذ أول احتجاجات في 2011 وما قبلها، وإلى هذه اللحظة، فضلاً عن نسيان الحقيقة الأكبر؛ أن النظام في العراق لا يسمح بصوت خارج النسق الطائفي ـ العقائدي المهيمن.
يشكل العراق الامتحان اليومي لضمير العالم بأن ينظر للشباب القتلى كبشر وليسوا أرقامًا
في مقاطعة الانتخابات، وفي الاغتيالات السياسية المستمرة في العراق للنشطاء والشباب والصحفيين والباحثين، وحالة الإفلات من العقاب المستمرة، هناك أسئلة يومية تنطلق عن ملامح المشروع الأمريكي في العراق، وامتحان يومي لضمير العالم بأن ينظر للشباب القتلى كبشر، وليسوا أرقامًا.
اقرأ/ي أيضًا:
مشاهد من حراك أم إيهاب الوزني.. ظهيرة واحدة لخصت الحالة الاحتجاجية في العراق
"اعتداء" وقوات ملثمة.. خيمة أم إيهاب الوزني "تقضّ مضجع" النظام