يبدو أن المعاناة تأبى مفارقة أبناء الموصل منذ 15 عامًا، إرهاب وتهجير وحرب وتمييز سياسي موجه وسيطرة للقوى المتطرفة طوال السنوات التي مضت، ثم أخيرًا غرق، كأنها فيلم هوليودي متقن، أو واحدة من حكايا الخرافات التي كنا نسمعها صغارًا ونضحك عليها كبارًا، لكن الضحك هنا سيتحوّل إلى بكاء بطعم الألم العراقي الممتد من آخر نقطة في الموصل دمرتها الحرب إلى أول طفل يشعر بالظمأ في البصرة بمياهها الملوّثة.

ليس في غرق "العبّارة" الموصلية إلا نبذة مختصرة عما يدور في أغلب الأراضي المحرّرة من "داعش"، بل في العراق عمومًا!

اتأمل ما يحدث وأفكر بمن سيقرأ عن هذه الأحداث مستقبلًا هل سيصدق فعلًا، إن كل هذا حصل في عصر التكنولوجيا والحداثة! أم أنها مجرد مبالغات يسردها كتّاب ماهرون لضرورات تسويقية.

اقرأ/ي أيضًا: ارتفاع حصيلة ضحايا غرق العبّارة والمرجعية تعلّق وهذا ما حدث مع العاكوب

لكن يبدو أن ما يحدث هنا على هذه الأرض تحديدًا هو فعل خارج عن نسق التاريخ، غير خاضع لضوابط العصر، حيث أنه واحد من أعظم تجليات الفشل في القرن الحادي والعشرين وربما ما قبله. إذ ليس في غرق العبّارة الموصلية إلا نبذة مختصرة عما يدور في أغلب الأراضي المحررة من "داعش"، بل في العراق بشكل عام.

في دولة تسودها الفوضى ولا يحسن ساستها إدارتها، الذين لا يجيدون سوى الاحتراب والخراب، ليست هذه الحادثة فيها سوى دلالة راسخة على أن أمراء الحرب لا يجيدون الحكم والإدارة حتى لو أرادوا أن يبرهنوا بأفعال عدّة أنهم انتقلوا من الحرب إلى البناء، من الاحتماء بالطوائف إلى مساحة الوطن الجامعة!.

دعك من كل هذا، ولننظر من زاوية أخرى، زاوية الحقوق والمطالبات بها. قبل فترة كان يحدثني أحد الأصدقاء، الذي يسكن إحدى المناطق التي حررت من تنظيم داعش، قائلًا إن "كل شيء سيء الآن، هو بالضرورة أفضل مما كنا عليه في فترة سيطرة التنظيم، لكنه في المجمل وضع مزر، والأسوأ هو أن علينا تقبله، لأننا فيما لو اعترضنا أو حاولنا التظاهر، سنجابه باتهامات أقلها الحنين إلى تنظيم داعش، وأبشعها الانتماء إليه"، حيث لا مكان لاحتجاج أهالي المناطق المحرّرة أو التعبير عن معاناتهم بطرق شتى في قواميس الجهات المسؤولة عن هذه المناطق، سواء كانت فصائل مسلحة أو حكومات محلية.

إنها حقبة سوداء في الحقيقة، وتشبه إلى حد كبير حقبة ما بعد سقوط النظام السابق، والتي كان يوصف كل من ينتقد الوضع القائم بأنه يحن إلى الديكتاتورية. وبذات الطريقة حكم على أبناء المدن المحرّرة بالخضوع، لأنهم محكومون أيضًا، كما نحن بالثنائيات اللا منطقية، داعش أم سلطات فاسدة، صدام أم أحزاب الحرب الأمريكية، وكأنه لا مجال لخيارات بديلة تخلقها الشعوب، في ماكنات صناعة الاستبداد والفساد والانقسامات الطائفية والعرقية.

هذه الماكنات هي ذاتها التي تعمل بشكل دؤوب على ترسيخ استقطاب الجماعات الفرعية في الدولة، ولا يمكن لها في يوم من الأيام أن تنتج دولة بمفهومها الحقيقي. في الموصل مثلًا، عمل "النظام المحاصصاتي"، بكل الطرق على أن يظهر المدينة بصورة جميلة بعد تحريرها، وحاول خلق إيجابيات وهمية لا وجود لها على أرض الواقع، لغايات تسويقية لا أكثر، إذ أن السلطة لا تكترث إلى مجابهة العمل على مأسسة وجود الميليشيات والسلاح المنفلت في المدينة، وعمليات تهريب النفط الممنهجة، ولا تعمل على إيجاد حلول جذرية للمشاكل التي أدت إلى صناعة التطرف والإرهاب فيها، ولا حتى حلول لمشاكلها الاقتصادية وفقر أبنائها، حيث أن أمور كهذه تتكفل بها سلطة واعية وتشعر بالمسؤولية كدولة، لا سلطة منفلتة وخاضعة للتقسيم المكوناتي في نظام "الديمقراطية التوافقية" والفساد الممنهج.

عبّارة الموت هذه ليست إلا تعبيرًا جليًا عما يجري في العراق، في ظل مؤسسة حكم لا تفقه سوى صناعة الخراب بشكل ديناميكي منظم ومستمر، وتفتقر لأدنى مقوّمات الدولة، فلسنا سوى ركاب على عبّارة قادتها تفننوا بقلبها وتكسيرها وسرقتها وبيعها في سوق "الخردة" للدول الخارجية، وقتل أبنائها بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة، لكن الأدهى أنهم صاروا بارعين في صياغة التبريرات، والعمل على ترسيخها كمسلّمات.

محكومون نحن بالثنائيات اللا منطقية، داعش أم سلطات فاسدة، صدام أم الأحزاب التي جاءت بها أمريكا، وكأن لا مجال لخيارات بديلة تخلقها الشعوب!

نوروز هذا العام، والذي من المفترض أن يكون فرصة للتعايش وبناء ما أهدمته السياسية، كان مختلفًا في العراق، وتحديدًا في الموصل، فأصبح عيدًا لتأبين الحياة، ومناسبة للتذكير بأن مجاميع الفشل الحاكمة، لا تختلف كثيرًا عن المجاميع الارهابية، فكلاهما خلّاق للبشاعة وصانع للموت بطرق مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد طرده مع رئيس الجمهورية.. محافظ نينوى يدهس متظاهرين اثنين بسيارته!

الموارد المائية تخفض إطلاقات سد الموصل لتسهيل عملية انتشال ضحايا العبارة