الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكراره – كارل ماركس
تكلمنا كثيرًا عن تاريخ الاستبداد وعن العقود الستة الماضية، وما تركته لنا من إرث ثقيل، دفعت الأجيال السابقة واللاحقة أثمانه باهظة وهي تحاول الخروج من هذا الكابوس، لكن دون جدوى؛ ظل العراق محكومًا بالحديد والنار، ونتائجه كانت دمًا ودموعًا كما ذكرنا في مناسبة سابقة. والتاريخ ما لم نعرفه، فسيرجع إلينا بأشكال تعبيرية مختلفة، لكن يبقى المضمون واحدًا. فالتكرار سمة "جوهرية" لتاريخنا السياسي؛ فسواء كنّا يمينًا أو يسارًا، يبقى شعارنا الأثير، هو كراهية الديمقراطية أولًا وآخرًا، إذ لا صوت يعلو على صوت الاستبداد. وحقبتنا السياسية الراهنة محكومة بأغلبية أحزاب دينية، لم تستطع عبور الذاكرة السياسية المأساوية فقامت باستدعاء نماذج الاستبداد السالفة.
جميع الأحزاب الحاكمة في عراق ما بعد 2003 لا تعترف بالديمقراطية كمنهج وسلوك بل إن كانت قضية تؤرق هذه الأحزاب فهي الديمقراطية
ببساطة شديدة، إن الأحزاب الحاكمة في عراق ما بعد سقوط البعث، جميعها لا تعترف بالديمقراطية كمنهج وسلوك. بل إن كانت قضيّة تؤرق هذه الأحزاب فهي الديمقراطية. القضية المركزية التي كانت تتمحور عليها فعاليات الأحزاب الدينية، على سبيل المثال، هو إنزال حكم الله على الأرض، لكن سرعان ما غيّرت جلدها حينما فُتحت لها أبواب السلطة، فتحولت إلى أحزاب برامجية، لا همّ لها سوى المكوث أكثر زمن ممكن على عرش السلطة. معنى هذا، أن البرامج المقصودة هنا، هي كيفية تدوير الوجوه ذاتها في العملية الانتخابية. وقد كلفتنا عملية التدوير هذه أثمانًا باهظة، كانت آخرها سقوط ثلاث محافظات في أيدي عصابات "داعش"، وكبدتنا خسائر جسيمة، وراح ضحيتها شبابنا الشجعان وهم يستردون الأرض، فضلًا عن الأرقام الفلكية لثروة العراق المنهوبة، إذ لم يعد شيء صالحًا للعيش في هذا البلد المنكوب.
اقرأ/ي أيضًا: شجعان التحرير.. بين شبح الاستبداد وقلق التنظيم
المعضلة ليست أنها أحزاب أيديولوجية، لأنها تخلّت حتى عن أيديولوجيتها؛ فالعدو التاريخي "أمريكا" لم يعد شيطانًا أكبر، ولم تعد المعارضة في قائمة همومهم، وإنما السلطة فحسب، والدليل لا توجد جبهة معارضة في هذه الحكومة "الديمقراطية". بل حتى لو تطلّب المجيء مع المحتل، فأحزابنا تحولت في تعاملها إلى "برغماتية"، حيث تتحول السياسة في نظر هذه التنظيمات إلى ميدان مصالح إذا تعلّق الأمر في تشبّثها بالسلطة والفساد والإفساد، وتغدو الديمقراطية وسيلتها المثلى التي تحتكم إليها، لكن سرعان ما تتوسل خطاباتها الكلاسيكية حينما يتعلّق الأمر بمحاكمتها ديمقراطيًا، فتبدأ بسلسلة تصفيات واعتقالات لجمهورها الذي انتخبها سابقًا!
خلاصة الأمر: نحن أمام تنظيمات لا تعترف بالديمقراطية، بل لم تمارسها يومًا ما، غير أنها مشروطة بآليات الديمقراطية للوصول للسلطة. تغدو المؤامرة مبررة وجسرًا لوصولها للسلطة، ثم يختلف الأمر لو شعرت بالتهديد. أعني، أن دخول هذه الأحزاب بصحبة الأمريكان يكتسب جوازًا شرعيًا، وبخلافه تغدو أمريكا منبع المؤامرات. على سبيل المثال، لم يأتِ المتظاهرون من خارج الحدود، وكانت مطالبهم وطنية، لكنهم تحولوا، بقدرة قادر إلى "دمىً" بيد أمريكا بحسب السلطة الفاسدة، والأمر معلوم، لأن الشباب استفزوا هذه السلطة بالديمقراطية!
مثال واحد يمكنه أن يسلّط الضوء على حجم الكراهية التي تحملها هذه الأحزاب تجاه الديمقراطية: في أحدى فلتاته "التاريخية" يوم كان رئيسًا للوزراء، وهو يخطب في رجال العشائر، صرّح المالكي وقال "هو أحنا بعد ننطيها"! أي أننا لا نعطي الحكم على الإطلاق. وقد عبّر الرجل بصراحة بالغة عن ذاكرته الدينية والسياسية بلا لف أو دوران، وهي عبارة مكثّفة اختزلت تاريخ الأحزاب الدينية وترجمت بوضوح وصفاء كراهيتها للديمقراطية. أكثر من ذلك، لقد جن جنون الأحزاب الفاسدة وهي تشاهد انتفاضة تشرين وشبابها الثائر، الذي طالب بالإصلاح الديمقراطي، وتغيير القوانين المجحفة التي ترسّخ الاستبداد. فتمسّك الشباب بالسلمية منهجًا وسلوكًا، فجاءهم الرد سريعًا وحاسمًا: أكثر من عشرين ألفًا بين شهيد وجريح، فضلًا عن المعتقلين والمختَطَفين.
ثمّة أمر محيّر، ولعله سابقة سياسية واجتماعية، إن لم أكن متوهمًا، وهو أن القاعدة تطالب بالاستقلال الوطني، بينما ترفضه القمّة بمزيد من القتل والتنكيل! هل ثمّة أمر محير أكثر من هذا؟! تطالب القاعدة الشعبية، بمعزل عن تأثير المثقفين، السلطة باسترداد الوطن!، بينما تطالب السلطة بأرواح المتظاهرين.
إن القاعدة تطالب بالاستقلال الوطني بينما ترفضه القمة بمزيد من القتل والتنكيل، فيما تسعى السلطة جاهدةً لقتل الديمقراطية لكن الأخيرة تحولت إلى نشيد الأجيال الجديدة
إن السلطة الحاكمة في حرج شديد، وتكاد تدخل في دائرة مغلقة لا يمكنها الخروج منها، لأنها لم تحسب حسابها لهذا اليوم، بل لم تستشعر هموم الأجيال الجديدة التي انسلخت من ذاكرة الحديد والدم. وتحاول هذه السلطة جاهدة تغذية ذاكرتهم بالحديد والدم مجددًا! إنها تسعى جاهدةً بقتل الديمقراطية لكنها فشلت حتى هذه اللحظة، إذ لم يعد صوت الاستبداد مسموعًا، ذلك أن الديمقراطية هي نشيد الأجيال الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: