منذ أن حاصرت قوات الاحتلال الأمريكي بيته في مدينة النجف صيف العام 2004، كان مقتدى الصدر يتقدم مرتديًا كفنه صوب منبر الجمعة في مسجد الكوفة، وفي عقله شيء واحد لا غير، تشكيل الجيش الذي سيقف ضد المحتلين؛ كان يعني كل بسطال غير عراقي، حيث هاجم الصدريون الكثير من القواعد التابعة للإيطاليين والأوكرانيين وغيرهم. كان الأمريكيون آنذاك يسيطرون على كل البلاد، وكانت الطائرات تنقلهم مجوقلين محمولين عبر القواعد في ألمانيا والكويت وقطر إلى العراق، تزايدت عدّة وعديد القوات الأمريكية حتى وصلت إلى ما يربو على ربع مليون بين مقاتل ومتعاقد مدني بحلول العام 2007 بتوصيات قائد القوات الأمريكية في الشرق بترايوس إلى الرئيس بوش الابن.
كان الصدر وحيدًا بين شيعة السلطة في مواجهة الاحتلال الأمريكي مدفوعًا بتاريخ عائلته وتياره الشعبي الجارف فضلًا عن الدعم الإيراني
وقف الصدر وحيدًا من بين شيعة السلطة، القادم منهم من بلاد الضباب في غرب أوروبا ومن الجارة الشرقية في مواجهة جيش يسيطر على البر والجو والبحر، مدفوعًا بتاريخ عائلته وتياره الشعبي الجارف، وبزخم إيراني بصفته الشريك في القضاء على ما يسمى "قوى الاستكبار" في العالم.
اقرأ/ي أيضًا: حراك الصدر الأخير... قراءة في الأسباب والمآلات
على الجانب الآخر، كان الصدر منذ دخوله الرسمي بالعملية السياسية، يترك التعامل مع أصحاب الياقات البيض في الصف الشيعي إلى وجوه تألف الغرف المعزولة في المنطقة الخضراء المحصنة، تتفاوض وتتنازل، تأخذ وتعطي، وهذه أيضًا، تركت إدارة المعارك في ضواحي بغداد وغيرها لقادة جيش المهدي والمعممين الجهاديين.
بقيت إيران الصديقة المقربة للصدر حتى بعد أحداث صولة الفرسان في العام 2008، حينما تقدمت القوات العراقية مدعومة بسلاح الجو الأمريكي صوب معاقل جيش المهدي في غرب وشرق بغداد وأقصى جنوب البلاد في مدينة البصرة لتستعيد السيطرة على منشآت حيوية، هرب على أثرها كل قادته إلى إيران. كانت حكومة المالكي المتهاوية بفعل الضغط الخارجي وفشل المصالحة الوطنية والانسحابات المتتالية منها بحاجة إلى نصر على الأرض، لم يكن بالإمكان إلا اللجوء إلى السلاح للنجاح في ما فشلت به السياسة.
مرحلة الممهدون
أدخل الصدر تعديلات كثيرة في فصائله العقائدية المسلحة. في نهاية آب/أغسطس 2007 أعلن تجميد جيش المهدي لمدة ستة أشهر لإعادة تنظيمه، خطوات كانت ضرورية بعد مواجهات مسلحة على أسوار مرقدي الإمام الحسين وأخيه العباس في مدينة كربلاء في زيارة النصف من شهر شعبان الهجري، ثم أمر مجددًا عند انتهاء المدة بالتجميد لمدة ستة أشهر أخرى، ببيان قرأه الشيخ عبد الهادي المحمداوي مدير مكتب الصدر في كربلاء: "يعتبر تجميد جيش الإمام المهدي ساري المفعول إلى أجل غير مسمى، ومن يخل بذلك فلا يحسبن نفسه منتميًا إلى ذلك العنوان العقائدي. ثانيًا قد وضعنا برنامجًا ثقافيًا لجيش الإمام المهدي سميناه الممهدون فعلى الجميع الالتزام به، ومن لم يشأ ذلك فهو خارج عن الجيش العقائدي".
في 2009 أعلن الصدر عن تجميد مليشياته بشكل كامل، وطرد المتورطين في عمليات "تطهير طائفي" وقتل على الهوية قبل انخراطه في العملية السياسية بشكل رسمي، قبل أن يعود ويلوح ببندقيته مجددًا ويهدد بفك التجميد إن لم تخرج القوات الأمريكية من العراق، وفق الاتفاقية التي وقعتها حكومة المالكي الثانية مع إدارة أوباما.
كان الشيخ صلاح العبيدي قد اعتلى منصة الخطاب أمام الآلاف في ساحة المستنصرية ببغداد ليقرأ كلمة الصدر في نيسان/أبريل 2011، "إذا نقض المحتل الاتفاق مع الحكومة العراقية بخروجه في الموعد المحدد، فإن هذا يعني تصعيد عمل المقاومة والرجوع عن تجميد جيش المهدي"، ودعا إلى "تصعيد المقاومة السلمية وذلك بالاعتصامات" والخروج بتظاهرات تهتف "الشعب يريد إخراج الاحتلال ولنكن يدًا واحدة، لنثبت للجميع أننا بلد ملتحم ونصرخ: نريد إسقاط الغزاة".
وقتها، كانت ساحة التحرير ببغداد والمحافظات تموج بالآلاف منذ 25 شباط/فبراير، لمطالبة المالكي بالاستقالة وفق الشعار الكبير الذي عبر عنه من مصر وتونس في ثورات الربيع العربي "الشعب يريد إسقاط النظام"، رفعه العراقيون طمعًا في ما تبقى من ديمقراطية آنذاك "الشعب يريد إصلاح النظام". كان تفاعلًا عراقيًا مع الربيع العربي لم ينجح وقتها.
ليست المرة الأولى
إن تظاهرة السيادة التي أغلقت في 24 كانون الثاني/يناير 2020، نصف العاصمة في مناطق تستحوذ عليها فصائل مدعومة من طهران، ليست الحدث الفريد بدعوة من الصدر ومن تنظيم أنصاره، ليست هذه المرة الأولى التي يعود فيها الصدر عن رأيه، فالأولوية بالنسبة له، هو العدو الخارجي قبل الالتحام في معارك داخلية مع شركاء الأمس، خصوم اليوم، مزاجه مزاج المقاومة، تراثه وما لديه من أنصار في سجون الحكومة حتى هذه اللحظة يشير لهذا.
كان خروج أتباع الصدر في احتجاجات عفوية تعني الخروج عن التنظيم الصدري الحديدي وستعني أيضًا مرحلة جديدة للصدر نفسه
لم يتحول الصدر عن دفة إيران، بل ولم يواليها، حتى بعد أن اقتحم أنصاره المنطقة الخضراء مرتين في شهر واحد في أيار/مايو 2016 بهتاف كان يشكل صدمة في أوساط طهران ونخبها "إيران برا برا.. بغداد تبقى حرة"، لكن الصدر الذي حافظ على مسافة ما بينه وبين الإيرانيين، وهرب طويلًا من سيناريو حرب أهلية في الشوارع، زج بأنصاره في تظاهرات 2015 لـ"حمايتها"، وأخذها إلى مديات سياسية في مرحلة الانتخابات التشريعية في 2018 يقول البعض إنها ليست مشروعة، وجد نفسه في ما بعد بمواجهة مشروع سياسي طموح من كتل تنهل من فكر المرشد الأعلى الإيراني عقائديًا وسياسيًا تحت قبة البرلمان العراقي.
اقرأ/ي أيضًا: انتهاء تظاهرة الصدر.. "هدنة" مع الأمريكيين ووعيد من "الميليشيات"
وتشير الخطوط الرفيعة التي نسجها الصدر مع التيارات المدنية منذ انطلاق تظاهرات الإصلاح واعتصامها في حي التشريع أمام الخضراء وانتهاء بالعام 2016، إلى أنه أراد الوصول إلى زعامة المشهد في العراق بعد أن خرج من العباءة المذهبية، هو أيضًا من أراد مد يد التعاون مع أي ممثل "معتدل" من المعادل الطائفي السني، وبدت تلك الساحة عند ذاك المذهب سياسيًا، خالية، الجميع تحول إلى حالتين، أما مطرود بأمر طهران وفصائلها، أو مندمج في سياستها التي تعاظمت أثناء وبعد الحرب على "داعش"، لذا، لم يكن أمامه في مشروعه السياسي "الإصلاحي" سوى أن يمضي بسائرون وحيدًا مع الشيوعيين الذين جازفوا هم أيضًا بخسارة حلفائهم من الليبراليين واليساريين المتشددين.
أين كان الصدر في تشرين الأول/أكتوبر؟
حتى التساقط المستمر للمتظاهرين في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2019 على أسفلت ساحة التحرير ببغداد، كانت السلطة التي تصدر أوامرها من مكتب القائد العام للقوات المسلحة بتهشيم رؤوس المتظاهرين مطلع تشرين، تعي جيدًا أن تزايد الحشود البشرية في التحرير يأتي عبر الخزان البشري الأكبر في العراق؛ مدينة الثورة سابقًا، الصدر حاليًا.
دُفع المتظاهرون بفعل الحديد والنار من ساحة التحرير، أغلقت الطرق المؤدية بالكتل الكونكريتية، وبدأت حفلة صيد الشباب من ساحة الطيران إلى مرآب الباب الشرقي ومحطة الكيلاني ثم تقاطع قرطبة وشارع وزارتي الداخلية والنفط إلى تقاطع مول النخيل، وصولًا لساحتي الحمزة ومظفر في مدينة الثورة/ الصدر بالرصاص الحي من قوات مكافحة الشغب والعناصر المدنية الملثمة والقنّاصة، كان خروج أتباع الصدر بلا توجيه يعني مرحلة جديدة للصدر نفسه، سيعني أيضًا لجمهوره الخروج من التنظيم الحديدي والاندفاع خلف احتجاجات عفوية بمشاركة شباب المقاهي وجيل الانستغرام وجماعة "التكتك" ولعبة البوبجي.
مر الأسبوع الدموي بإدانة التظاهرات من قبل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي لما اسماها "أحداث العنف في العراق ولبنان"، وبتهديد صريح من رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض بـ"وأد المؤامرة"، وقبلها كانت إدانة مقتدى الصدر لأعمال القمع الدامية ودعوته إلى فتح تحقيق، وفيما كانت خدمات الإنترنت مقطوعة عن العراقيين، كانت الاجتماعات المتتالية لقاسم سليماني تحاول ترميم الأوضاع ولملمة الصفوف في جنوب البلاد التي وصلت في مناطقه إلى حرق مقار أحزاب وفصائل مسلحة توالي طهران، بل وقتل بعضهم والتمثيل بجثثهم كما حدث في محافظة ميسان.
العراق ما بعد سليماني والمهندس
غيرت لحظة القصف الأمريكي لموكب قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ومضيفه نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس مطلع كانون الثاني/يناير من صورة المشهد بالكامل. كان المتظاهرون في بغداد يمسكون الأرض في بغداد منذ 69 يومًا، يحتجون منذ 95 يومًا، قطعوا ثلاثة جسور ومقترباتها بشكل كامل وجزئي، مثخنين بالجراحات والدموع على فقدان أكثر من 650 شخصًا وقرابة 25 ألف جريح ومئات المعتقلين والمغيبين.
كان اقتحام عناصر الصدر للمطعم التركي عنوة والإعلان عن تزكية مرشحين اثنين بداية لخسارة الصدر ارتياح ساحة التحرير
حتى قبل تلك اللحظة، كانت كفتا الصراع تترنحان باستمرار مع محاولة الصدريين فرض مرشحين لشغل موقع رئاسة الوزراء بعد استقالة حكومة عبد المهدي وتحولها إلى تصريف أعمال، حامت القائمة الصغيرة للصدريين في سماء ساحة التحرير طويلًا من دون اتفاق، لاكتها ألسن المحتجين في البصرة، واسط، ذي قار، بابل، الديوانية، بلا نتيجة تذكر.
هل تكسرت الأصابع؟ هل تقطعت الخيوط؟
فقد الصدر صبره على ساحة التحرير، وأحس بضرورة إنهاء الاعتصامات بالسرعة الممكنة، وأحست إيران بضعف قبضتها على وكلائها في العراق بغياب الجنرال الأول لدى خامنئي، كان التجميد قد فُك عن جيش المهدي، وكانت عناصره قد اقتحمت المطعم التركي عنوة لتعلن عن تزكية مرشحين اثنين لم تسمهم بالاسم، لكن البيان الذي أذيع على المنصة استدرك بأنهما حازا على تطابق المواصفات التي أعلنتها ساحة التحرير.
اقرأ/ي أيضًا: مقتدى الصدر.. الرابح الأكبر من تظاهرات العراق
لم يُحدث البيان الصدى المرجو، وخسر الصدر ارتياح الساحة لوجود أنصاره فيها، فكثيرًا ما قدمت "القبعات الزرقاء" خدمات جليلة للساحة في حفظ أمنها بالتعاون مع خيم المعتصمين، لكن البيان وما تلاه كان يعني هبوب الرياح التي ستبعد سفن الصدر عن ساحة التحرير، ربما إلى غير رجعة.
مؤيدو الصدر، واجهوا ـ من غير أتباعه - صدمة التعامل مع قراراته مسبقًا، لم يكن من السهل هذا، ولا حتى تقبل النقد واللوم من الأطراف التي لم تثق به منذ البداية من بينهم المتشددون في كره التيارات الإسلامية على الإطلاق.
إيران تترنح.. مؤقتًا!
أحدث اغتيال سليماني صدعًا هائلًا في مشروع إيران الكبير من اليمن وصولًا إلى لبنان على حدود إسرائيل، خرج عدو أمريكا على الأرض من اللعبة، أسلوب جديد في عالم الاغتيالات، عملية نظيفة كُتب عنها الكثير، بلا شك لن تكون الأخيرة في إطار مد وجزر التوتر في عموم المنطقة الناطقة باللغة العربية.
نفض الصدر يده تمامًا من ساحة التحرير بعد فشله في أن تكون الانتفاضة ورقته على الطاولة أمام خصومه من وكلاء إيران الذين اقتحموا السفارة الأمريكية قبل أيام وتلقوا ردًا كبيرًا من واشنطن، ملل الصدر من المتظاهرين "وعنادهم"، دعا عدد غير قليل من أنصاره إلى الانسحاب بفعل نقد كانوا كثيرًا ما تحاشوا الرد عليه بصرامة، ثم تحولت الوجهة، ذهب الزعيم مُعزيًا لعائلة سليماني، ودشن أسلوبًا جديدًا في دعوته إلى تشكيل المقاومة الدولية، أمرٌ باركه قادة ميليشيات كانوا قد خرجوا من السفينة الأم، التيار الصدري، رفاق السلاح القدماء يقف بعضهم مع الصدر في صورٍ جماعية، الكثير من الاتهامات تتطاير بوصفه رجل إيران الجديد، فيما يقول آخرون إنها فرصة الصدر للانقضاض مجددًا على الزعامة، وهذه المرة عبر بوابة ستفتحها طهران مرتاحة في مرحلة ما بعد سليماني.
نفض الصدر يده تمامًا من ساحة التحرير بعد فشله في أن تكون الانتفاضة ورقته على الطاولة أمام خصومه
ورغم أن الصدر دعم إيران علنًا غداة مليونية "ثورة العشرين الثانية"، وهي مناسبة لم يفته فيها أن يكون متميزًا عن غيره، لكنه دعا إلى عدم المقاومة المسلحة للاحتلال الأمريكي، وطالب بدمج الحشد الشعبي بالقوات المسلحة في ضرب تحت الحزام لوكلاء إيران، بيد أن تظاهرة كبيرة مثل هذه، ربما، لن تكون المناسبة الأخيرة لزج انصاره مع خصوم كان يصفهم بـ"الميليشيات الوقحة" في ضوء حاجة كل الأطراف للصدر، وهو وحده من قرر لمن يمد يده، وهو وحده من يحمل عبء قراراته.
اقرأ/ي أيضًا:
تقرير أمريكي عن دور "مدينة الصدر" في الاحتجاجات: يسندهم تاريخ المقاومة والتحدي