لا شيء تثبته العمليّة السياسية في العراق سوى أنّها غير قابلة للتطوّر. لقد أدّت الاحتجاجات التي انطلقت في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو في بغداد، وكانت قد سبقتها محافظات الوسط والجنوب، إلى إجبار حكومة رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي على إعلان حزمة "إصلاحات" فقيرة، لا ترقى إلى حجم الأسى الذي يئن تحت سياطه المجتمع العراقي، ودفع المتظاهرون الغاضبون البرلمان إلى تمّلقهم، فسارع إلى إعلان حزمة "إصلاحات" هو الآخر، وهي أيضًا "باهتة" ولا تمس الإصلاح بشيء، وليست قابلة للتطبيق بسبب تقاسم النفوذ والسلطة والمال بين الأحزاب.
حظي العبادي بشعبيّة بعد حزمة "الإصلاحات"، وزاد منها تكراره المستمّر بأنّه لن يتوقّف عن إصلاح حال البلاد إلا إذا تمّ اغتياله
استهدفت إصلاحات العبادي إقالة نوّاب رئيس الجمهورية، وهم "صقور" العمليّة السياسية، نوري المالكي وأسامة النجيفي وأياد علاوي، فضلًا عن تخفيض رواتب الرئاسات، وتخفيض عدد حمايات الرئيس ونوابه ورئيس مجلس الوزراء ونوابه، والنوّاب في البرلمان، الذين يتجاوزون المئات لكلّ فرد منهم.
حظي العبادي بشعبيّة بعد حزمة "الإصلاحات"، وزاد منها تكراره المستمّر بأنّه لن يتوقّف عن إصلاح حال البلاد إلا إذا تمّ اغتياله، وهو الذي لا يخشاه "خدمة للعراق والعراقيين". في هذا التوقيت بدأت التظاهرات تخفت. خطف لمتظاهرٍ هنا، وتهديد لآخر هناك، علاوة على تخبّط المتصدّين لتلك التظاهرات في رسم جدول للمطالب وسقوف زمنيّة وتهديد بالتصعيد إذا ما تمّ تسويفها. الأمور متروكة للزمن، والزمن يأكل من جرف المتظاهرين، بطبيعة الحال، ويمنح المدى للأحزاب السياسية لترتّب أوراقها وتلتّف على المطالب غير الواضحة أساسًا.
بالإضافة إلى هذا، كانت الأحزاب تستميل قادة التظاهرات إليها، ساعة يتعاطف معهم هذا القائد، وساعة أخرى ذاك، تُشكَّل أحلاف بين المتصدين للتظاهرات، وسرعان ما تسقط ويتم اتهام المتظاهرين بزيارة سفارات، وقبض أموال من الجهة الفلانيّة والأخرى العلانيّة، لزحزحة الأمن.
المشهد صاخب وفهمه الجميع إلا المتصدين للتظاهرات. بعض الأصوات حذرت مسبّقًا من هذا الصخب، وأكدت أنه لن ينتج شيئًا، وأن هذه الأحزاب ستأكل يابس المتظاهرين كما أكلت أخضر البلاد. دعت الأصوات إلى الجلوس على طاولة لفهم السلطة وتفكيكها والوقوف على مدى قابليتها على التطوّر. بعض الأصوات دعت إلى المجابهة بالعنف والشغب لتنتبه الأحزاب إلى أن هناك قوّة في الشارع، وأخرى دعت إلى الاعتصامات في الشوارع. حلول تُطرح من أجل إدامة زخم الشباب اليائس الذي يخوض بحر إيجه التركي هربًا من تردي الوضع الأمني والخدمي وجحيم البطالة، ولا أحد يرد.
العبادي الذي حارب الفضائيين، تحوّل إلى قائدهم، هو نمر من ورق في العملية السياسية الفاسدة
أثناء ذلك، كان العبادي يثبت بالدليل القاطع أنه ليس شاذًا عن قاعدة السياسيين السابقين. لا جديد يقدّمه أمام الوضع الذي يغلي، يقول كلمة تُدين المالكي ويسارع إلى الاعتذار عنها، يقدّم حلًا ويتراجع عنه، ويعلن عن قوائم بإقالات ويتبيّن بعد حين أنها أرخص من الورق الذي كتبت عليه. العبادي الذي حارب الفضائيين، تحوّل إلى قائدهم، هو نمر من ورق في العملية السياسية الفاسدة.
لكن حتّى "الإصلاحات" التي خدّرت العراقيين قليلًا تراجعت عنها الأحزاب السياسية والبرلمان. سُحب التفويض الذي منح لرئيس الحكومة. "الصقور" لم يتركوا مكاتبهم ليعودوا إليها، وجيش الحمايات الذي شاهد دوري كرة القدم الإنجليزي ها هو الآن يتجهّز بالعتاد ليعود إلى حماية الساسة. أما العبادي فلقد أُهين أكثر مما ينبغي، وفقد ما حصل عليه من احترام، ويبدو أنه مستعد للتحوّل إلى "خرقة" سياسية طالما أنّه باقٍ في منصبه.
أما التظاهرات، فيكفي النظر إلى ساحة التحرير وسط بغداد، لمعرفة حجم ضغطها.
هل أخذ العراقيون الأرنب إذن؟
اقرأ/ي أيضًا: