نميل دائمًا إلى تصنيف التنظيمات الدينية على أنّها تنظيمات تنطلق من المبادئ الدينية المحضة وليس المصالح الدنيوية، أو هذا ما تدعيه هذه التنظيمات على الأقل. ولذلك غالبًا ما أميل إلى رأي مفاده أنّ ما يحصل هو عبارة عن أداء مسرحي يخضع لتقلّبات موسمية تنشط على وجه الخصوص في الكرنفالات الانتخابية. وبالطبع كان وقع الأداء المسرحي مثيرًا للغاية في العرض الأول الذي أقامته القوائم الانتخابية في التجربة الأولى للانتخابات، حتى أنّ عموم الشيعة أيقنوا بما لا يقبل الشك أنّ المبادئ انتصرت على المصالح الدنيوية، وسوف يقطف الشيعة ثمار الصبر المر بعد تلك السنين العجاف.
بعد الخراب الذي سيطالنا جميعًا سنكتشف أن السلطة بالنسبة لعشاقها هي الديانة المقدسة وليس شيئًا آخر
وأنا شخصيًا استرجعت شريط الذكريات الطفولية وعن ذلك الأمل المشحون باليقين الصلب حول طبيعة الحياة فيما لو حكمتنا هذه الشخصيات. لكن ليس كل ما يتمناه الأمر يدركه! وجاءت رياح السياسة بما لا تشتهي سفن الآمال المزيفة، ونحن الآن على مفترق طرق خطير، إذ لم نعد نميّز بين العدو والصديق، وبين طبيعة الهوية السياسية التي تسيّر شؤون الدولة العراقية، حيث كل الدروب تقودنا إلى عصيدة يصعب التعرّف عليها؛ أهي قوىً سياسية لا تساوم على المبادئ الدينية أم أنها تنظيمات دنيوية لا تقحم الخطاب الديني في تسيير شؤون السياسة؟
اقرأ/ي أيضًا: شيعة السلطة: صراع الدين والدنيا
لذلك ينبغي علينا تتبع مسار هذه التنظيمات إن كانت حقًا تنطلق من دوافع دينية محضة في سلوكها السياسي. وربما سنصل إلى نتيجة مفادها، أن هذه التنظيمات علمانية التوجه لو تعلق الأمر بتوطيد سلطتها، فسيكون طبيعة الثمن المدفوع خارج كل الأسوار العقائدية. لكن لو تعلق الأمر بالخسائر الفادحة التي ستتكبدها هذه التنظيمات فسرعان ما تُغيّر جلدها وتبدي صلابة عقائدية غير مسبوقة، كما لو أن هناك كارثة رهيبة تطال الدين والمتدينين على وشك الحصول.
وستبقى هذه التنظيمات تراوح بين هؤلاء وهؤلاء، دون أن تكسب الجولة النهائية لصالح أي من التوجهين. بل سيكون الدين والدنيا ورقة تفاوضية باهظة الثمن في مسار التسويات الطويل. إذا تعلق الأمر بفتح حانات للخمور لضمان شعبية التنظيم الديني فسيسارع لأخذ زمام المبادرة فورًا، ولو تعلق الأمر بزيادة كسب ثقة هذا الجمهور العريض فلا يتوانى السياسي للهرولة في أحد الحسينيات للممارسة اللطم والبكاء في المجالس الحسينية. وبالطبع ستكون هذه الأنشطة في ذروتها عند اقتراب مهرجان الانتخابات العراقي.
ونحن بالحقيقة نتعامل مع مسخ فرانكشتاين لا هوية له واضحة المعالم، تتشكل ملامحه من مختلف الشخصيات، وهو بالكاد يُعرَفُ له اسمًا يميزه عن الباقين. وبهذا نحن أمام ورطة كبيرة لا تشبه أي ورطة أخرى، ذلك أن انشغال بعض المتشددين برفض الدين، وجدوا أن الحل الأفضل لتحليل هذه التنظيمات هو إدراجها في خانة الدين كدليل إضافي يعزّز قناعاتهم الممانِعة ضد الدين.
فالحل الأسلم لديهم لضرب الدين جملة وتفصيلًا هو من خلال ما يُسمّى بجماعات الإسلام السياسي. وما عزّز هذه القناعات ووفر الكثير من الجدل هو هذه الجماعات نفسها وجمهورها السعيد، حيث وصل هذا الأخير إلى قناعة شبه راسخة أن من يهاجم هذه التنظيمات هو يهاجم الدين بالضرورة. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام منطق اختزالي خطير يتناول الدين اعتمادًا على السلوك السياسي الذي تسلكه هذه التنظيمات. ولذلك نسمع في الآونة الأخيرة عن بيوت طائفية، كالبيت الشيعي والبيت السني، وربما سيلحقه البيت الكردي! فتغدو الديانات والقوميات والمذاهب مختزلة في بيوت سياسية. لكن لو تساءل المرء حول هذه الفوضى فسيأتيه الجواب سريعًا: العيب ليس في الدين بل في المتدين. بهذه الطريقة الوقائية ينهي الجمهور السعيد كل الأسئلة التي تحاول ربط التنظيمات الدينية بالدين نفسه.
والأمر أيضًا يختلف كثيرًا عن مقولة المتدينين الشهيرة "إنهم لا يمثلون الدين"، بل إننا ننطلق من زاوية أخرى وهي كيف سمح الجمهور المتدين، الذي يتظاهر بالدفاع عن الدين، بالتعامل مع هذه الكيانات بوصفها كيانات دينية حتى لو حاول الدفاع عن الدين وتبرئة ساحته من هؤلاء؟ ذلك أنه لو كان حريصًا على الدين بالفعل، كما نتلمس عادة من ردود افعاله المتشنجة، فلماذا لا يضغط باتجاه إبعاد الخطاب الديني عن العمل السياسي، أقلها دفاعًا عن الدين كما يزعمون، أو على الأقل إثبات أن الدين لا يقبل بهذا السلوك المشين من خلال عدم انتخابهم مرة أخرى؟
يمكن أن نستنتج من هذه العجالة حقيقة مفادها: إن خصوم الدين ومريديه كلاهما ساهما في تعزيز النفور المتزايد من الخطاب الديني؛ فالأول عبر نقده المتزايد للخطاب الديني، الذي يتذبذب بين الشعبوية والعقلانية، وهذه الأخيرة جهورها فقير للغاية بالمقارنة مع الجمهور الأول، أما الثاني فهو يساهم بشكل ملحوظ في تعزيز هذه القناعات عبر التبريرات التي أصبحت مملة حول براءة الدين من هؤلاء، دون أن يسهموا في تضييق دائرة النفوذ التي تحظى بها هذه التنظيمات الدينية في العمل السياسي لكي يقنعوا خصومهم بجدية دعاواهم. وبعد الخراب الذي سيطالنا جميعًا، سنكتشف أن السلطة بالنسبة لعشاقها هي الديانة المقدسة وليس شيئًا آخر. أما نقد الخطاب الديني فهذا شأن آخر تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: