هنالك نمط من الاحتجاجات يكتفي بعمليات الضغط المستمرّة على السلطات لتستجيب هذه الأخيرة لمطالبه المشروعة، فيحدث التغيير بصورة غير مباشرة. أي لم يتمخّض عن هذا الحراك الاحتجاجي المذكور أي تنظيم يُذّكر، وتفضّلَ الجماهير اكتفائها باستخدام آليات الاحتجاج المشروعة التي تكفلها عادةً الدساتير الديمقراطية. إن عملية تنظيم الصفوف، بالنسبة لهذا النمط من الاحتجاجات، ليست جديرة بالاهتمام، ولا تقع ضمن قائمة أولوياتها لأسباب وجيهة، سنأتي على ذكرها. هذا النمط الاحتجاجي "المريح" يغري باستلهامه كنموذج، ونسخة طبق الأصل للرهان عليه في المشهد السياسي العراقي المضطرب، والترويج له كخلاصة وافية لأشكال الاحتجاجات الناجحة. وقد اطلعت على ما كتبه باحث عراقي، وهو يحيل إلى ورقة بحثية قام بها باحثون غربيون، يذكرون فيها عيّنة من نماذج مختلفة من الاحتجاجات التي حدثت في السنين الأخيرة، ومن هذه النماذج هي التي تكتفي بالضغط، والخالية من التنظيم.
استلهام نماذج متقدمة زمنيًا على تجاربنا السياسية المتواضعة، يوسّع دائرة الاغتراب في ذهنية الفاعلين السياسيين، وبالأخص شباب انتفاضة تشرين
إن استلهام نماذج متقدمة زمنيًا على تجاربنا السياسية المتواضعة، يوسّع دائرة الاغتراب في ذهنية الفاعلين السياسيين، وبالأخص شباب انتفاضة تشرين، ويراكم من عملية التذبذب والاضطراب، ويعرّض العملية الاحتجاجية برمّتها للفشل. معلوم أن المخلصين والمهمومين بعملية التغيير، ومنهم الباحث الذي ذكرناه، لا يتوقفون من المقاربات والتحليلات وتجميع الشواهد التاريخية للبرهنة على حيوية هذا النموذج أو ذاك، لتطبيقه على واقعنا السياسي. غير أن النقطة التي يمكننا أن نجادل من خلالها هي كالآتي: ثمّة تناسب طردي بين النموذج والواقع، بتعبير أوضح، أن أي نموذج سياسي أو اجتماعي مالم يأخذ بنظر الاعتبار شروط الواقع وإمكاناته فمصيره الفشل المحتوم. فشروطنا الاجتماعية والسياسية تعطينا علامة بارزة، من أن منظومتنا الثقافية لم تلتحق بعد في ركب المجتمعات الديمقراطية، وهي في عَوَزٍ مستمر لأشكال التنظيم الاجتماعي الحديث. فبالتالي تغدو تلك النماذج المتطورة عابرة لإمكانياتنا الثقافية في الوقت الحاضر. ما نحتاجه هو تأسيس البنى التحتية كمقدمة لولوج الحداثة.
اقرأ/ي أيضًا: العراق.. مآلات الثورة
إن الاحتجاجات التي تكتفي بالضغط دون أن تنخرط في صفوف التنظيمات السياسية، تعتمد على نظام سياسي عريق، واحترام لحرية التفكير والتعبير، وسياق اجتماعي متطور، ومؤسسة قضائية عادلة، وديمقراطية فاعلة، ونخبة مستنيرة، كخلاصة لمثل هذا النمط من المجتمعات المتطورة. بالطبع ليست القضية بهذه المطابقة الحرفية، لكنها قد تبدو مطابقة تمامًا في وضعنا العراقي الغريب؛ حيث تستولي القبيلة والمذهب على الوجدان العام، وتكمّل إحداهما الأخرى، وسط غياب نخب سياسية مستنيرة، بل معدومة كليًّا عن الممارسة السياسية. خصوصًا أن بعض النخب الثقافية "المستنيرة"، الذين تكتريهم السلطة، تدعم هذا النظام الطائفي الفاسد برتبة "مستشارين"!، ولا يعنيها أمر التغيير إلّا من خلال كتاباتهم الرومانسية "الهادئة" التي يكتبونها من أحد مقاهي بيروت.
إن التنكّر للتنظيم، يعني، ببساطة شديدة، التنكّر لشهداء الانتفاضة، ويعني كذلك، إطالة أمد المعاناة، وكنتيجة لكل هذه المقدمات، سنكون عرضة للصراعات الفئوية وشق الصفوف (هذا إن كانت هنالك صفوف!)، ونقع في حفرة عميقة اسمها الانسداد سياسي والاجتماعي. يبدو أن أمد المعاناة سيطول، وستبقى احتجاجاتنا المليونية محصورة في مواقع التواصل الاجتماعي، وسيتعرّض للتخوين والتشكيك كل من تسوّل له نفسه التفكير بعقلانية والنظر للصالح العام. إن التفكير العقلاني، يعني ما يعنيه، أنه يستفز عاداتنا ومألوفاتنا الذهنية، والعراق ببساطة شديدة بلد الشعراء بشكل عام. والتنظيم الصلب يعني الحزب، وهذا الأخير يستقذره المزاج العراقي، والذهنية الشعرية تكره السياسة، وتكره التنظيم، وتكره العقلانية، لكنها تحب الاحتجاج.
اقرأ/ي أيضًا: