يحتاج المرء إلى المزيد من الصبر عند سماعه مسؤولًا أميركيًا يُصرّح لوسائل الإعلام وخاصةً فيما يتعلق بشؤوننا العربية؛ لكن الباحثين عن جذور المشكلة العراقية بعد 2003، المنشغلين بالأسباب، المهمومين بالحلول، بحاجة إلى شكيمة وربما لبعض الحبوب المهدئة، وهُم يستمعون لنصائح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للقادة العراقيين حول ضرورة التخلي عن نظام المحاصصة وتشكيل حكومة مُتحررة من الترهيب الخارجي.
لو كانت للولايات المتحدة خطة أو إرادة لبناء نظام ديمقراطي غير قائم على المحاصصة لما مكّن حاكمُها تلك الأحزاب التي لم يكن هو نفسه مقتنعًا بها في مجلس الحكم
لقد اعتاد (القادة) العراقيون في اللقاءات الصحفية على تَحميل نظام المحاصصة المسؤولية حين يُسألون عن سبب تردي الأوضاع فيما يتحدثون بعد دقائق عن "استحقاقهم انتخابي" في محاولة تافهة للالتفاف على معاني الكلمات دون شعور بالخجل، وهو جزء من النفاق غير الذكي الذي تمارسه أحزابنا؛ لكن أن يَنصح من أسس نظام المحاصصة في العراق وعلّم سياسيينا على أبجدياتها في العراق، بتركها، وفي حديث لصحفيين أمريكان دون أن تستوقف النصيحةُ أحدًا، فنحنُ مُجبَرون على حالة من الشعور بالذنب اتجاه نقدنا لوعينا بل وأحزابنا المسكينة الفاسدة.
اقرأ/ي أيضًا: من أجل المستقبل.. ما ينبغي ولا ينبغي في 9 نيسان
لقد أثمر ما زرعه الحاكم الأميركي في عراق ما بعد صدام حسين، بول بريمر، "بيوتات طائفية" موزعة بحسب نسب المكونات التي تحدث عنها: أغلبية شيعية، وقومية كردية، وأقلية عربية سنية!.. وهو إذ يُجزّء العرب إلى مكوّنين بتعبيرات ديمقراطيتنا، يستميل الأكثرية منهم بزعم خوفها من الأقلية، ويَعد قياديًا فيها (عبد العزيز الحكيم) بتعيين شيعيًا في قيادة الكتيبة الأولى من القوات المسلحة الجديدة.
استقدمت دولة الناصح بومبيو إلى العراق مجموعة من المعارضين المنفيين والمشردين بين الدول، لا يمتلك غالبيتهم من السير الذاتية سوى التعامل مع مخابرات الدول المستضيفة، بلا برامج أو خلفيات آيديولوجية حزبية تقليدية غير الشعارات الطائفية والقومية التي نقلوها إلى المائدة السياسية، بفعل "عبقرية" بريمر وصُنِعت بذلك مادة لأزمة، لا لحلها، بل للاعتياش عليها، أما الامتيازات والرواتب و"الموازنة الفاحشة" كما يَصف من جاء بهم فكانت أسرع قضية سارع هؤلاء "القادة" الجدد لحسمها.
إن القادةَ المخضرمين الذين يخاطبهم بومبيو هُم من جاءت بهم بلاده إلى الحكم، بل أن رئيس الوزراء (الغائب طوعيًا!) عادل عبد المهدي، أحد أسوأ رؤساء الوزراء في تأريخ العراق والمنطقة، والذي انفرطت الدولة في عهده، وقُتِل المتظاهرون على أيدي الميليشيات والأجهزة الحكومية تحت مرآه ومسمعه، وتطايرت صواريخ الولايات المتحدة وإيران على أراضي دولته، كان من أكثر السياسيين إثارة لإعجاب بريمر!
أما الصف والجيل الثاني من القادة هم نتاج تلك البيوتات الطائفية التي صنعها القادمون الأوائل مع الولايات المتحدة، الذين فرزوا الجمهور (سياسيًا) إلى مكونات ثم حشّدوه نحو الطائفة وتقاسموه انتخابيًا على أحزابهم، ثم أن بعضهم استغل الحروب الأهلية التي تسبب بها الجيل الأول ليزيحه من عرش الطائفة ويتربع بدلًا عنه... يُطالب بومبيو أولئك وهؤلاء بأن يكفّوا عن المحاصصة.
لا نتوقف فقط عند الاستخفاف الذي يُمارسه الأمريكيون تجاه منطقتنا، وربما اعتاد أي مراقب للولايات المتحدة على سياسة خَلق المشكلة ثم الاستنفار لأجل حلها، لكن مشكلة المحاصصة الطائفية التي نعاني منها (ومعنا بومبيو) ليست بالسهلة. لقد تجذّرت الأحزاب الحاكمة في الدولة، وتوسّعت اقتصادياتها وشركاتها واستثماراتها، وأصبحت لديها قواعدها الجماهيرية (الفاعلة) بحكم ارتباطها بالمصالح، بالمال السياسي والوظائف التي توزع هي الأخرى عبر المحاصصة. صار لدينا عائلات حاكمة بعضُها يُسيطر على قطاع أمني كبير، وآخر على قطاع اقتصادي كبير، وهكذا دواليك.. وامتدت أذرع الطبقة السياسية كالسرطان في جسد الدولة.
لم تكن لهذه الأحزاب شعبية أو قواعد جماهيرية في العراق، يقول بريمر ولست أنا، ولو كانت للولايات المتحدة خطة أو إرادة (حسب النيّة) لبناء نظام ديمقراطي غير قائم على المحاصصة لما مكّن حاكمُها تلك الأحزاب التي لم يكن هو نفسه مقتنعًا بها في مجلس الحكم، الذي وصفه بـ"ترويكا" (1)، خاصةً مع صلاحياته المضاعفة عن صلاحيات صدام حسين رغم دكتاتوريته، بشهادة السياسي اللبناني غسان سلامة الذي عمل مع بعثة الأمم المتحدة في العراق بعد الاحتلال.
بعد أن وضعت أمريكا الحجر الأساس لأعراف المحاصصة الطائفية وانطلق ساسة العراق في مضمارها، تعمل إيران وحلفاؤها على ترسيخ هذه الأعراف ومنع الانقلاب عليها
دَعمت الولايات المتحدة هذا الشكل من النظام حتى قبل أن تحتل العراق، كما في مؤتمر لندن 2002 الذي رعته، وبعد أن وضعت الحجر الأساس لأعراف المحاصصة الطائفية وانطلق ساسة العراق في مضمارها، تعمل إيران وحلفاؤها على ترسيخ هذه الأعراف ومنع الانقلاب عليها ممن تصفهم بعملاء السفارة الأمريكية كما ذكرنا في مقالة سابقة. وعلى المرء يتساءل هنا: هل تُحاول الولايات المتحدة ابتزاز إيران وحلفائها، أم أن بومبيو يستعير من رئيسه شعبويةً يخاطب بها العراقيين؟ أم أنه توجه جديد على طريقة "خَلق المشكلة ثم حلها" تستخدمه الإدارة الأمريكية للسيطرة على العراق؟
اقرأ/ي أيضًا: تجاهل الشعوب والمفتشين بـ"حجة فاسدة".. احتلال دق مسمارًا في نعش النظام العالمي
ونحن الآن، بعد أن تسرطنت الأحزاب في الدولة، وقتلت وجرحت عشرات الآلاف من الشباب المُطالبين بوطنٍ أفضل خالٍ من الأعراف السامّة، لسنا بحاجة إلى معرفة مساوئ المحاصصة من معالي الوزير الأمريكي، بل إرشادنا معرفيًا عن الطريقة التي يُمكننا بها إقناع الأحزاب السياسية بالتخلي عن المحاصصة أو قطع أذرعها السلطوية والعسكرية: هل عن طريق انتفاضة جماهيرية أخرى يقف العالم متفرجًا على قتل وخطف واغتصاب شبابها مع أخذ الشعب كرهينة بقطع الإنترنت والشوارع وغلق وسائل الإعلام؟ أم عن طريق جماهير مستقلة لا تجد من يمثلها في النظام الطائفي؟ أم عن طريق الاستعانة بالولايات المتحدة للتخلص من النظام الذي أسسته هي؟
إنها رقصة سياسية أمريكية على إيقاع ترويكا بريمر وأنغام بومبيو كونترا (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (1)ـ تُطلق لفظة ترويكا سياسيًا على اجتماع أو قيادة مشتركة لثلاث دول وأًصلها عَربة تجرها ثلاثة خيول.
- (2)ـ كونترا، رقصة أميركية شعبية يوزّع فيها الراقصون على خطين ويبدلون شركائهم بتوجيهات من أحد الأشخاص.
اقرأ/ي أيضًا: