هناك كثير من التعميم والتعسف في اعتبار المتدينين متعصبين بالعموم، وإن معارضيهم من العلمانيين متحررين من آفة التعصب والتطرف، وهي أحكام راجعة لأصحاب الأفكار المسبقة والمنمطة، الذين يقومون بتعميمها على الآخرين كدفاع أعمى عن أيديولوجياتهم واتجاهاتهم الفكرية المتنوعة.
الفاشية والنازية ومعها الكثير من الاتجاهات لم تكن "دينية" وهذا ما يدلل أن التطرف ليس مرتبطًا بهوية دينية أو غير دينية
لم تكن الفاشية أو النازية أيديولوجيتان دينيتان، بل كانت دعوتان قوميتان علمانيتان، كذلك الحال مع الكثير من الأنظمة "الاستبدادية" التي تحاول أن تفرض قبضة سلطتها بالنار والحديد وهي أنظمة تقوم شرعيتها على معاداة الدين كما عرفنا مع الكثير في منطقتنا العربية والعالم. التطرف في ذاته هو تطرف له ظروف وأشكال تعبيرية متعددة في الواقع. ومن جهة أخرى تفيدنا نظرية التصنيف الاجتماعي أن عموم الناس تميل إلى تصنيف عالمها إلى جماعة الـ "نحن" والـ "هم" بحيث ينشأ مع هذا التنصيف بذور المحاباة والتعصب للجماعة المرجعية مقابل تضخم سلبيات الجماعة الأخرى والتقليل من إيجابياتها. فقد يكون مجرد الانتماء إلى جماعة معينة في ظروف الاحتدام والصراع والتنافس وتضارب المصالح سببًا كافيًا لظهور التعصب ضد جماعة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: تركة التعصب إذ يرثها مجانين الحكم
في الواقع، ثمة من يخلط بين الدين والتدين، هو خلط يؤدي إلى تنميط الدين في نموذج سلوكي لبعض المتدينين وتعميم هذا النموذج باعتباره يمثل الأصل، وبهذا تصبح المقدمات المبسطة مرتبطة بالنتائج الآيلة إلى "التعصب" الذي هو بمثابة "حكم مسبق" يراد إسقاطه وتعميمه على جماعة بكاملها.
إن الدين يأتي بأصل واحد، الأصل الإلهي، حسب الديانات السماوية، وبالتالي الأسس التي ينبني عليها والمقوّمات التي ينهض بها والتي تتحدد بمنظومة من الاعتقادات والممارسات تفسر علاقة البشر بالكون وأسراره. أما التديّن فهو فعل اجتماعي تخلقه بالممارسة جماعة من البشر، ويخضع لسلوكها ومفهومها وبيئتها الجغرافية والسياسية، ومن قبل إلى تراثها.
ويمكننا تصنيف أنماط التدين إلى ثلاثة أصناف: أولها التدين الجوهري؛ الدين عند هذه الفئة من الناس غاية بحد ذاته، يكون فيه الإنسان قد سلم نفسه طوعًا لإرادة الله سعيًا لكسب الآخرة. أما ثانيها، فهو التديّن الغرضي؛ وهو الذي يعني التوجه نحو الدين بوصفه وسيلة لتحقيق أشياء أخرى ذات قيمة دنيوية أو منفعة سياسية أو اقتصادية. هذا النوع نعرفه في العراق على وجه الخصوص بدقة، فتجد الكثير من المسؤولين على سدة الحكم بعد 2003 لبسوا رداء الدين واتخذوا منه ستارًا لتنفيذ مآربهم. وأبسط مثال على ذلك، الوقفان السني والشيعي، تجد الفساد فيهما قد وصل إلى مرحلة عليا وتنقل في وسائل الإعلام، بينما لا يظهر أحدهم إلا وجبهته سوداء من إثر السجود، ومسبحته لا تسقط من يده.
وثالثها التدين العاطفي؛ يبدي هذا النمط عاطفة دينية جارفة دون أن يمتلك المعرفة الدينية الكافية، ما يجعله غير قادر على الحوار، وهذا ما يؤدي به إلى حالة التعصب والتطرف. ويقع تديُّن يدعى "التديّن التفاعلي" ضمن هذا النمط، لأنه ينتج من ردة فعل لدى البعض، كعودتهم المفاجئة إلى حضن "الإيمان" بعد حادثة أو تجربة مريرة في حياتهم، فيغلب على هؤلاء تدين سطحي حماسي. كذلك يقع "التدين الدفاعي" داخل هذا النمط، فهو يتميز بأنه عصابي، ناتج في الغالب من شعور الخوف أو الذنب أو القلق أو تأنيب الضمير أو الإحباط أو القهر أو أزمة ما يمر بها الإنسان تدفعه إلى التدين للتخفيف من حدة المشاعر ولإحداث نوع من التوازن العاطفي. وثمة نوع آخر في هذا النسق يتمثل بـ"التدين المرضي" وفيه يشعر البعض أنهم يمتلكون رسالة هداية للبشر وبأنهم من أولياء الله الصالحين. في هذا النوع من التدين يصل الأفراد إلى حدود التدهور العقلي.
هذا التصنيف لأنواع التدين نظري بطبيعة الحال، كذلك أن شخصية الإنسان لا يمكن تحليلها وفق منظور سكوني الطابع، فالتدين قد يكون في نمط ويتحول إلى آخر بحسب التغيرات السوسيولجية والسايكولوجية. ومن الممكن هنا أن نطرح سؤالًا بسيطًا، في أي نمط يوجد أكثر المتعصبين؟ بينت الدراسات التجريبية، أنهم يتواجدون في الصنف الثالث بالدرجة الأولى والثاني بدرجة أقل. ذلك أن الذين يتخذون من الدين وسيلة للحصول على أشياء دنيوية "مادية أو معنوية"، مرشحون لأن يكونوا أكثر تعصبًا وأقل معرفة ونضجًا وشفافية في الوجدان الديني. هذا فضلًا عن أن الصراع السياسي والتنافس يضطرهم إلى التعبئة ضد "الآخر" ما يخلق البيئة الكاملة الحاضنة للتطرف الديني.
لا بد من الإشارة إلى القابلية لنشوء اتجاهات التعصب والتطرف تحت أفضل الظروف المناسبة لها في المنظومات الفكرية ذات المرجعية المغلقة والدوغمائية، والتدين السياسي بوصفه تدينًا غرضيًا أو عاطفيًا يفقد أصالة استناده إلى الدين بشكل أصيل، إذ تختلط معه مجموعة عناصر "مصالح، مكاسب، سلطة، انتماءات محلية و قبلية"، إلخ، تحول الدين إلى قناع أو وسيلة، أو تتعامل معه كرأسمال معنوي صالح للاستثمار في الصراع السياسي.
ردود الأفعال في أوطاننا العربية ليست إزاء جوهر الدين إنما هي ردود تكون قبالة أنماط التديّن
إن ردود الأفعال تجاه الدين في أوطاننا العربية هي ليست إزاء جوهر الدين، إنما أمام أنماط التديّن. وهذا عائد للخلط بين الأمرين. ويوجد من يسوق ردود الأفعال هذه عمدًا أنها تجاه الدين، محاولًا بذلك إقصاءه بشكل تام من الحياة، وهذا سيؤدي إلى خلق حالات انفصالية وعصابية ستؤثر على الاندماج الاجتماعي وبناء الهوية الوطنية في المجتمعات، وهو أمر لا يخرج من إطار التعصب والتطرف الذي ليس له هوية وجماعة معينة.
اقرأ/ي أيضًا: