"الشجرة الميّتة لا تمنح ظلًا" ت.س إليوت.
نكتشف قوة الفكرة وصلابتها وصدقها حين نضعها في مختبر السلطة. وسواء كانت هذه السلطة دينية أم دنيوية فسيكون المعيار الوحيد لقوة أفكارها وقدرتها على تغيير الواقع هي التجربة السياسية. الحركات السياسية الدنيوية مطالبة للانخراط بالعمل السياسي للوقوف على أهم النقاط الجوهرية وغربلة ونقد شعاراتها النظرية التي كانت تتمسك بها قبل الخوض في العمل السياسي. في حين لا يحتاج الدين الدخول في المعترك السياسي للبرهنة على قوة معانيه وقدرته على تغيير الواقع. أللهم إلّا إذا جادلنا بوجود نظريات سياسية في الدين، غير أن الملاحظ في تجربة التنظيمات الدينية لا يعثر على هذه النظرية المتماسكة. بل يعثر على تنظيمات دنيوية قلبًا وقالبًا لكنّها تتخذ من الدين شعارًا لها. ولا نتكلم هنا عن قضايًا غامضة، بل نستخلص ذلك كله من عمق التجربة السياسية لهذه التنظيمات.
ربما من أخطر التجارب التي تقود إلى منعطف سياسي خطير هي التجربة الدينية من حيث كونها سلطة سياسية. والتجربة الدينية حين تتورط في الدخول إلى دهاليز السياسية فهي أما تمتلك خزينًا نظريًا من تراثها الديني وتسعى لترجمته على أرض الواقع، أو محاولة انتهازية تسعى إلى المكاسب الشخصية وتكرٍّس الفساد باسم الدين، واستثمار الحاضنة الشعبية الواسعة التي تتمتع بها الجماهير المتدينة. وبكلا الأمرين ستكون التجربة الراهنة هي الحد الفاصل للحكم. بل مهما كانت طبيعة المخزون النظري فلا بد من التجربة الدنيوية المحضة لفهم الجوهر الحقيقي للنظرية الدينية. وأيًا ما كان الوضع فالوقائع العملية تكذّب كل ادعاء وتختبر الشعارات الرنانة التي رفعتها التنظيمات الإسلامية. وإحدى هذه الوقائع اكتشافنا أن السلطة السياسية أقوى من التدين، وأن المال السياسي شوّه وكشف لنا في العلن هشاشة هذه التنظيمات وضعفها ورخاوتها أمام المغريات.
كلما توغلنا بعمق في العمل السياسي كنّا إلى المحك أقرب؛ أي نختبر بنائنا المنطقي المترابط، ونضع كل شعاراتنا موضع التطبيق، وما عدا ذلك، فسيبقى بنياننا المنطقي وشعاراتنا الحالمة محض ادعاءات لم تثبت التجربة صدقها. ومهما حاولنا التبرير فسيضاعف هذا الأخير الكثير من الشكوك، وإلّا لا معنى لهذا التبرير أمام هذه التجارب الغنية التي أثبتت بالأرقام أن الجماعات الدينية سقطت في شراك السلطة ولم تستطع حتى الآن أن تنقذ نفسها، وأنها كانت من أكثر التنظيمات السياسية فسادًا في تاريخ العراق السياسي، وأنها لم تحسم أمرها بعد؛ هل هي تنظيمات دينية أم دنيوية. كل هذا وغيره يؤشر بوضوح عقم التجربة الدينية وفشلها المروّع في بناء المؤسسات. إن الخبرة المعاشة أكثر صدقًا وأعمق دليلًا من كل المفاهيم المجردة والأحلام التي كانت تسكن هذه التنظيمات.
أيهما كان الأقوى، أو بتعبير آخر، من يتبع من: السلطة السياسية الدنيوية أم الدين أو المذهب؟ لم يعد الجواب خفيًا على أحد، بل لم يعد بالإمكان اتهام أحد بالمؤامرة على الدين فيما يخص الحكم على التنظيمات الدينية. لقد أعطت هذه التنظيمات الرخصة والجواز لفهمها من الداخل والاطلاع على تجربتها السياسية بشكل مباشر عبر تمسكها المحموم بالسلطة طيلة عقدين، وفي غضون ذلك كشفت للقاصي والداني مقدار الرعب والخراب الذي سيطال أي بلد فيما لو سلّم أمره لقوى سياسية تتخذ من الدين قناعًا سميكًا للوصول إلى السلطة. لم يكن ثمة جهد كبير لإيقاع هذه التنظيمات في الفخ وإنما هي من مهدت الطريق للتعبير عن نفسها من أنها كيانات فاسدة لا تقيم وزنًا لقيم الدولة، وتنادي بالدين في مراحل الحرج السياسي، ثم تبرهن لاحقًا أنها ليست من الدين والسياسية في شيء. وهي بهذا تخسر الاثنين: تخسر هويتها الدينية وتخسر رهانها على إنجاح التجربة السياسية. وبفضلها تزداد رقعة الناقمين على الدين، وعبر التذكير بتجربتها المرة في الحكم ستمهد لدولة المؤسسات الدنيوية وليست دولة الوعّاظ والفاسدين والمرابين والمتاجرين باسم الدين.
اقرأ/ي أيضًا: