نراهن كثيرًا على تغيير الأفكار لأنه، كما نفهم، من تغيّرت أفكاره تغيّر واقعه. والحقيقة، ومن زاوية محددة، فإنه ليس بالضرورة أن توجد علاقة حتمية بين تغيير الأفكار وتغيير الواقع، فقد يكون العكس هو الصحيح. والزاوية المحددة التي أعنيها، هي رهاننا على التنوير المجرد، بمعنى أننا نراهن على تغيير الأفكار بمعزل عن تغيير الواقع. لذا يبقى خطابنا النقدي خطابًا تجريديًا: الأفكار في عالم والواقع في عالم آخر تمامًا.
إننا نراهن على التنوير المجرد، بمعنى أننا نراهن على تغيير الأفكار بمعزل عن تغيير الواقع. لذا يبقى خطابنا النقدي خطابًا تجريديًا
في خطابنا النقدي الموجه ضد الفكر الديني مثلًا، وهو مهم للغاية، يجري التركيز على وعي الأفراد؛ تتغير حياتنا الفكرية من خلال القراءات النقدية، ونغدو أشخاصًا مختلفين عمّا كنّا عليه في السابق، ولا يعود الخطاب الديني بصورته النمطية قادرًا على الإجابة عن كل الأسئلة، ويتحول الدين من شريعة فقهاء إلى فضاء أوسع وينخرط بالإجابة عن الأسئلة الكبرى ويساهم في البحث والتنقيب عن هشاشة الوجود البشري وأسئلته المقلقة. لكن كل هذا يجري كعملية تأويل للفكر وحسب! ولا يُلقي بظِلاله على الواقع الصلب.
ذلك أن الواقع يبقى كما هو؛ فالمؤسسة الدينية بحرسها القديم باقية، والمنظومة الاجتماعية الممانعة تقاوم "ببسالة" كل ما هو جديد. نحن أمام مواضعات اجتماعية أصلب وأقوى من أن يغيرها النضال الفردي، فالحرس القديم يتدرّع بمؤسسات اقتصادية نافذة وإقطاعيات تسهر على هيمنتها جيوش جرارة، فيكون وعي الفرد مثل الفقاعة وسط هذا النفوذ الهائل.
والسؤال الأكثر جذرية في هذا السياق هو سؤال الدولة! تلك الفكرة الثورية التي يمكنها قلب الواقع والإطاحة بالحرس القديم، ذلك إن السؤال الوحيد الذي يكتسب مشروعيته في منطقتنا هو سؤال السلطة وليس غيره. فمن هنا نجد تقاليد السلطة نافذة في كل مسامات وعينا الاجتماعي. إذا غاب رجال الدولة حلّ الحكواتيون محلّهم ويغدوا وعي الأفراد أثرًا بعد عين، وتتم مصادرة كل هذا الوعي على يد سجّان متخّلف. لكن متى يختفي هذا السجّان المفترس، بعبارة أخرى، متى يختفي هذا " الوحش" الاجتماعي؟ حينما يظهر رجال الدولة، لكن ماهي الشروط الاجتماعية التي تدفع باتجاه ظهور مثل هؤلاء الرجال؟
حينما يتنامى الوعي الفردي ويتحول إلى وعي اجتماعي واسع. لكن كيف تتغير العلاقات الاجتماعية؟ حينما نكتشف القوى المهيمنة والمسيّرة لهذه العلاقات، والقبض على تناقضاتها الداخلية، من خلال تفكيك عناصر البنية المحركة لهذه العلاقات.
اقرأ/ي أيضًا: تظاهرات البصرة تتوسع في العراق.. سخط الجنوب يوحد الشارع
لكن ما هي العناصر التي تشكّل بنية المجتمع العراقي؟ إنها القبيلة والطائفة، وعنصر خارجي يلعب دورًا "رياديًا" في تجذير أسس التخلّف، وهو المهيمن الخارجي. ما لطريق إلى تفكيك هذه البنية العصيّة على التغيير؟ الرهان على الصيرورة. هل يمكن الرهان على الصيرورة كما هي أم أن هناك شرط جوهري لابد له أن يقلب المعادلة؟ الشرط الجوهري للقبض على الصيرورة هو الوعي بها، وهذا الأخير يستلزم مفكرًا يخترق تلك التناقضات الاجتماعية عبر نقدها وتحليلها وكشف زيفها وإظهارها للعلن.
وفي ظل غياب هذا المفكر الواقعي تبقى حلقة التاريخ في العراق مغلقة وساكنة وعصيّة عن كل حدث جديد يمكنه أن يتحول إلى أفق للتفكير المنتج. إن طلّاب السلطة يعلمون قبل غيرهم زوال نعمتهم وأفول نجمهم فيما لو تم بناء مؤسسات وطنية كبرى، ويتم الاستثمار فيها وبنائها خدمةً للصالح العام وليس للإقطاعيات. ويلقي وجود مؤسسات وطنية بظلاله على وعي المجتمع، ويغدو هذا الأخير متسلحًا ومدركًا لفقره وحرمانه، ومن ثمّ يقضي على الإقطاعيات الكبرى التي تهيمن على مقدّرات البلد.
ما هي العناصر التي تشكّل بنية المجتمع العراقي؟ إنها القبيلة والطائفة، إضافة إلى المهيمن الخارجي
لمجرد أن يستأنف الوطنيون سؤال الدولة ستشهد تلك الإقطاعيات تهديدًا لهيمنتها. فمن هنا يغدو سؤال الدولة صداعًا مؤرقًا في رؤوس السلطويين. كلما نضج وعي الفرد بهذه الحقيقة نكون قد اقتربنا خطوة مهمة في بلورة وعي اجتماعي قائم على نمط مقاوم يجري بالضد من خطاب السلطة، ويقوّض معه أساطير الخطاب القبلي والطائفي. وحتى ذلك الحين لا تزال العلاقات الاجتماعية تعيد إنتاج نفسها وسط دائرة مغلقة، وتعبر عن نفسها بقوة من خلال هذه الطبقة الطفيلية التي تعتاش على فائض الثروة، وتبني لها صروحًا كبيرة بدعم إقليمي ودولي.
حينما تبدأ عناصر هذه البنية الاجتماعية التي ذكرناها بإعلان موتها أو ضعفها، فحين ذلك سنشهد وعيًا اجتماعيًا مغايرًا يتخذ من بناء الدولة شعارًا لا يقبل المزايدة، فالدولة هي ذلك "الوحش" الذي يلتهم المخلوقات الطفيلية ويمارس الإكراه القانوني ويحتكر القوة لنفسه، وهذا ما يبدو غائبًا حتى هذه اللحظة، في العراق خصوصًا وفي منطقتنا العربية على وجه العموم.
اقرأ/ي أيضًا:
تحالف الجميع مع الجميع في العراق.. العبور من الطائفية إليها!
الديوانية تخرج عن صمتها.. فقراء العراق في قلب الحركة الاحتجاجية